عند الساعة التاسعة مساءً تأتي سيارة «كيا»، نغلق محلاتنا في سوق المدينة (مدينة الصدر أو الثورة بالتسمية المحلية) ونركب «الكيا»، «الكيا» سيارة أجرة كبيرة 14 راكبًا تعمل كخطوط مواصلات داخلية في العاصمة وهي ليست من صناعة شركة «كيا»، عملت مجانًا لنقل المتظاهرين من السوق إلى ساحات التظاهر في بغداد، حتى تكاد تختنق بنا. يحرك السائق السيارة لتقلنا إلى حيث ساحات الاحتجاج والتظاهر. كانت ليلة شديدة الغضب منذ اندلاع الاحتجاجات في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2019، ورغم حدة الموقف وتطاير الرصاص وكثرة الجرحى، إلا أن شبان مدينة الصدر وحي البنوك والشعب (المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من بغداد) ظلوا يتوافدون من دون الشعور بأدنى خوف إلى تقاطع «مول النخيل» للتعبير عن رفضهم للحكومة وسياساتها.

في اليوم التالي أعلنت السلطات الحصيلة الرسمية للشهداء والجرحى فقط في هذه المواجهة بين مسلحين والجماهير المسالمة عند مول النخيل وسط بغداد، الحصيلة الرسمية سجلت خمسة شهداء وقرابة 110 جرحى، وأنا أكاد أجزم أن عدد الشهداء تجاوز الأربعين وقس على ذلك أعداد الجرحى، يستطرد صديقي محمد وهو يروي لي بمكالمة هاتفية أحداث تلك الليلة، ليلة السادس من أكتوبر أي بعد ستة أيام من انطلاق الشرارة الأولى للتظاهرة، كنا نهتف «إيران برة برة، بغداد حرة حرة» وننادي بإسقاط العملية السياسية التي عشنا في ظلها ويلات الطائفية والمناطقية والإرهاب، وما إن تزداد الهتافات حتى تتوالى علينا نيران القناصة المنتشرين في أعلى سطوح المباني لتقتل الشباب وتجرحهم، كانوا يرتدون اللباس الأسود، قوات الجيش ضعيفة أمامهم، (محمد يقول أنهم من قوات بدر والخراساني تساعدهم عناصر إيرانية). أوقفت محمد عن الحديث متسائلًا؟ ما أدراك أن من بين القوات القمعية إيرانيين، أجابني: أمسك المتظاهرون أحدهم ومن ثم حاولنا الحديث معه عن سبب قتل الأبرياء، لم يجيب (لا يعرف العربية)، فتشه الشباب (المتظاهرون) وأثناء ذلك تنهمر علينا رصاصات القناصة باستمرار، وجدوه يحمل جواز سفر إيراني، وليس وحده فبالأمس أيضًا أمسك باثنين منهم، لا يخفى على أحد مشاركة الإيرانيين بقمع المتظاهرين بطرق وحشية.

لم نعد نريد إيران، إيران تذبحنا منذ 2003 وتتحكم بمصائر الناس، ويضيف محمد قائلًا واسردها بالعامية كما قالها: «الناس ماتت من الجوع، ومن كَـد ما جاعت الناس يشوفون كل شوية جايبين واحد للمنطقة مستشهد وميخافون يتجمعون ويطلعون يتظاهرون من جديد بعدد أكبر».

ختم محمد المكالمة قائلًا: «عمي أمريكا أرحم علينا من إيران ولو رجعت أمريكا آني أول واحد أشتغل وياهم…».

ومنذ 2003 شهد العراق صراعات طائفية ومذهبية، وعانى مواطنوه القتل والتهجير والتنكيل والجوع والعوز والحرمان وسلب الكرامة، وتوغل الفساد في عمق مؤسسات الدولة وملامح سيطرة إيران على العراق ازدادت وضوحًا بمرور الأيام ومع تعاقب الحكومات، حتى فرضت ولاية الفقيه إحكامها على الدولة ومقدراتها.

أظهرت مظاهرات أكتوبر 2019 قدرة إيران ومديات سيطرتها على العمق العراقي من أقصاه إلى أقصاه باستثناء محافظات إقليم كردستان (شمال العراق) الذي تمارس عليه ضغوطًا كبيرة، عملت السياسة الإيرانية على تفتيت النسيج العراقي بافتعال الأزمات والاقتتال الطائفي والمناطقي وأزمت الصراع القومي العربي الكردي، وقامت بإضعاف الطائفة السنية حد إنهائهم، حتى أنهم لم يتمكنوا من مشاركة محتجي أكتوبر خوفًا مما لحق بهم بعد مظاهرات 2013 التي شاركت بها الأنبار والموصل وصلاح الدين وديالي ومناطق من بغداد وانتهت بالتشريد والتهجير وهدم وتخريب المحافظات واختطاف وقتل أبنائها، وأثناء ذلك لعبت إيران على الوتر الطائفي واستخدمت الشيعة ورمتهم في نار الحروب والإرهاب بحجة المذهب ولم تكتف بذلك، بل زادت عليه تجويعهم وتجريدهم الحقوق.

مظاهرات «نازل آخذ حقي كسرت حواجز الخطوط الحمراء وأبرزت ولاء الأتباع»

نعم. كسرت احتجاجات «نازل آخذ حقي» الجريئة والبريئة من كل شيطنة حواجز رسمتها سياسات إيران ونفوذها ورجالاتها في العراق منها الدينية والاجتماعية وغيرها ما يتعلق بسلطة المذهب، وارتفع الحس الوطني وأُيدت أصوات الشباب الثائر من كل العراقيين في مشارق الأرض ومغاربها خلا المنتفعين والأتباع.

المؤسف أنها أخمدت بالقمع والقتل وعزل الناس عن العالم، ولكن روح الثورة مؤكدًا لم تغادر صدور الشباب وأمهات الشهداء، لكن التخوف كل التخوف في التساؤل حول ما ستفعله أجندة إيران في العراق انتقامًا لإهانتها وكسر هيبتها؟ نرجو الله السلامة.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد