«لم يمت أحدٌ تمامًا
تلك أرواح تغيَّر شَكلها ومُقامها»
من خلال هذا البيت من جداريته صوَّر لنا الشاعر الفلسطيني محمود درويش فكرته عن الموت، ذلك أنه – كحدث رسميٍّ في مسيرة الإنسان، قد يظل الطريق نحونا من فرط الزحام لكنه حتمًا لن يؤجلنا – متى أصبح حقيقة ملموسة فهو لا يطول الأرواح بل يغير شكلها ومقامها ليعيدها في دورة الحياة، بعناوين أخرى ومدن غريبة عن منزل الولادة الأول.
في الثالث عشر من أبريل (نيسان) الماضي، مرت الذكرى الخامسة لوفاة كاتب الأوروغواي الشهير إدواردو غاليانو. بعد صراع أسبوع مع مرض سرطان الرئة، أعلن الطاقم الطبي لمشفى مونتيفيديو انتهاء رحلته في الحياة عن عمر ناهز 74 عامًا، تاركًا زوجته هيلينا فيّاغرا وثلاثة أبناء، الحارس القانوني لأسطول من الإنتاج الأدبي والفكري، أشاع من خلاله الحرب على كل الممارسات الاستعمارية العنصرية ضد أقلية بعينها.
لا أحد كان يتكهن بأن ذاك الرسام البسيط، ساعي البريد، الموظف البنكي الصغير والعامل الشاب في أحد المصانع سيتشارك في التجربة والمصير مع الكاتب المكسيكي الشهير خوان رولفو، الذي كان بدوره عاملًا في أحد مصانع العجلات المطاطية ببلاده، ويصبح فيما بعد من أكبر الكتَّاب في بلده الأوروغواي، والعالم الناطق باللغة الإسبانية، وتُترجم كتبه إلى ما يزيد على عشرين لغة. عمل أيضًا في مجال الصحافة المكتوبة، سجن بسبب كتاباته ضد الانقلاب العسكري عام 1973 ثم أجبرته سلطة الانقلاب على الهجرة القسرية، وضع اسمه على لائحة المطلوبين للقتل على يد «مفارز الموت»؛ فلجأ هاربًا إلى الأرجنتين ثم إسبانيا.
شاعر كرة القدم
في الحديث عن حياة غاليانو، تجري الإشارة دائمًا إلى مسيرته النضالية في الكتاية والمتابعة الجدية للشأن السياسي في بلدان أمريكا اللاتينية فالعالم، ويُغَيَّب الجانب المعلوم والجلي لمتابعي الشأن الرياضي وصحفييه المتعلق حول هوسه بعالم كرة القدم. من الحكايات المنقولة عن عشقه للساحرة المستديرة، يقال إنه كان يعلق كل أربع سنوات، لافتة على باب بيته كاتبًا فيها «مغلق من أجل كرة القدم»، وينعزل داخل عرينه لمتابعة مباريات كأس العالم ويكتب عنها كأحد أشهر محرري وناقدي هذا المجال.
«كنت أفضل لاعب كرة قدم في العالم، كنت اللاعب الأول بدون منازع، أفضل من بيليه ومن مارادونا، وحتى أفضل من ميسِّي. لكن هذا كان في الليل فقط، في أحلامي، وما إن أستيقظ حتى أتذكر أن لي ساقين خشبيتين لا تصلحان لكرة القدم، ولعله من الأفضل لي أن أكسب قوت يومي من خلال الكتابة».
هكذا كشف غاليانو عن حلمه بأن يصبح لاعب كرة قدم، غير أن الأحلام تمشي عكس ما يشتهي الواقع، لم يستطع أن يصبح لاعب كرة قدم، لكنه استطاع وعلى حد تعبيره أن يفعل بيديه ما لم يتمكن من تحقيقه أبدًا بقدميه. كرس حياته للكتابة والنبش في الذاكرة اللاتينية، دون أن يغفل عن الكتابة في أكثر المجالات محبة لديه. كتب في الرياضة كما كتب نورمان ميلر الأمريكي الليبرالي عن الملاكمة، فأصدر سنة 1968 كتابه «جلالة كرة القدم»، وفي سنة 1995 «كرة القدم بين الشمس والظل» الذي ترجم إلى العربية في مناسبتين سنة 1998 و2016، كما نشر «مغلق لأجل كرة القدم» سنة 2017.
رجل الحروف البارز لا يتردد عن المصارحة في الإعلان عن تصوفه لعالم كرة القدم المغلف بالشغف، ففي مقدمة كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل» والذي مثل فور صدوره رجة في مجال الكتابة الرياضية يقول: «أخيرًا وبعد مرور سنوات عديدة، تعلَّمت تقبُّل نفسي على حقيقتها: أنا متسوِّلٌ يبحث عن اللعب الجميل، أجول العالم مادًّا يديَّ متوسِّلًا في الملاعب: أستحلفكم بالله، هاتوا هجمة جميلة واحدة! وعندما أشاهد كرة قدم جيّدة، أعبِّر عن امتناني للمعجزة، دون أي اكتراثٍ بهوية الفريق أو المنتخب الذي صنعها».
من خلال توثيق تاريخي واجتماعي لكرة القدم، منذ بداية نشأة اللعبة أيام الفراعنة، حيث كانت الكرة تصنع من القش وتغطى بقماش ملون حتى الوصول إلى نهائيات كأس العالم في نسخته بكوريا الجنوبية واليابان سنة 2002، قدم – كناقد اجتماعي بطبعه – تحليلًا مبسطًا وعميقًا للزوايا المظلمة التي حوَّلت كرة القدم من فسحة بهجة وأمل إلى وسيلة استغلال، سيطرة وتصفية حسابات سياسية واقتصادية من قبل قادة الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، واصفًا كل المنظومة بالظلال التي تحجب نور الشمس.
عبر غاليانو قبل أيام من بداية مباريات الدورة العشرين من كأس العالم (البرازيل2014)، وفي بيان نشره عن سخطه من سياسات سلطة زيوريخ التي تسعى منذ سنوات إلى تجريد لعبة كرة القدم من كل القيم الجميلة فيها، والدفع إلى محو التوأم السامي (قيم العادالة والحرية)، وأعلن فيه مساندته للمظاهرات التي شهدتها البرازيل حينها، الذي جاء فيه: «تفجُّر الغضب في البرازيل مبرَّر ويشبه في تعطشه للعدالة، المظاهرات التي هزَّت دولًا كثيرة في أنحاء مختلفة من العالم مؤخرًا. قرر البرازيليون، وهم أكثر الشعوب تولُّعًا بكرة القدم، ألا يسمحوا مجددًا باستخدام رياضتهم ذريعةً لإذلال الكثيرين، وإثراء قلة قليلة. احتفال كرة القدم، وهو عيدٌ للأرجل التي تلعب، وللعيون التي تشاهد، هذا الاحتفال هو أكثر بكثير من مجرد مشروعٍ اقتصادي كبير، يديره سادة منصَّبون في سويسرا. فالرياضة الأكثر شعبيةً في العالم تسعى لكي تخدم الناس الذين يحتضنونها، وهذه هي النار التي لا يمكن لعنف الشرطة إخماده».
ماذا يمكن أن نقرأ لغاليانو؟
بين الرواية، والكتب النقدية التاريخية، وعشرات المقالات الصحفية في الرياضة والأدب، أكد غاليانو انحيازه التام للكتابة حول معاناة السكان الأصليين للقارة الأمريكية الذين يصفهم بـ«سكان الشق الجنوبي السفلي من القارة» على حساب سكان «الشق الشمالي العلوي من القارة». الكاتب الذي لا تتقاطع رؤيته الخاصة للأدب مع بقية المنتمين لحركة لاهوت التحرير، فهو لا يرى من مؤلفاته «صوت من لا صوت لهم» بل إنها مجرد صرخة ضمن صراخ مجموعة من الناس، بصوته الخاص وبصمته الخاصة، نداءات قد لا تسمع في نهاية المطاف بسبب القهر والاضطهاد الذي تعرضوا له، لكنها قصة اعتراض وغضب لكل فرد حر وشجاع تستحق أن تُسمَع وأن يُحتفى بها، أو على الأقل أن يُصفح عنها. هذا الإيمان بأن لكل إنسان قصته الخاصة، دفعه إلى حمل زاده اللغوي والذهاب في رحلة سفر داخل تاريخ الشعوب التي عاشت الاستعمار من قبل سلطة أقامت بناء حضارتها على أنقاض تلال من جثث وأنهار دماء أبناء تلك الشعوب. يبحث داخل الأحداث المتراكمة بتفاصيل صغيرة وحقائق مخفية؛ ليعيد تشكيلها في حدود أطر دروس المتمرسين في كتابة التاريخ دون تزييف.
يمكن للقارئ البسيط مثلي أن يشبه كتابات غاليانو ببركان غاضب سرعان ما يهدأ حين يقدم لنفسه، وقبل الآخرين، إجابات عن أسئلة من صنع خيال كلماته، ثم ما يلبث أن يعاود رسم الهجمة في شكل بحث جديد مستمر في ثقوب الذاكرة التاريخية الاجتماعية والسياسية، لشعوب أمريكا اللاتينية، فهو الذي يصف ذاته بالقول «أنا كاتب مهووس بالتذكر، بتذكر ماضي أمريكا، وقبل كل شيء ماضي أمريكا اللاتينية، الأرض الحميمة ذات الخصوصية والتي حُكم عليها بفقدان الذاكرة».
عن كتابه «أبناء الأيام» الصادر سنة 2013 عن دار دال للنشر والتوزيع عن ترجمة الراحل صالح علماني، يقول إدواردو غاليانو: هذا الكتاب يأتي انطلاقًا من شهادات ناطقة حية من أفواه أبناء شعب المايا في غواتيمالا، منذ بضع سنوات خلت، هذه الشهادات هي التي يتضمنها هذا الكتاب بين دفَّتيه اليوم. إنّ المايا يعتقدون اعتقادًا راسخًا بأننا فلذات أو أبناء الأيَّام، أبناء الزمن، وفي كل يوم تتولَّد القصص، والحكايات المتواترة، ذلك أن الكائن البشري فى عرفهم مصنوع وموضوع من الذرَّات، ولكنه صيغ كذلك من القصص، والسَّرد، والتراث، والحكايات».
كتبت الروائية التشيلية إيزابيل الليندي في مقدمتها لكتابه الشهير«أوردة أمريكا اللاتينية المفتوحة» أشهر كتب إدواردو غاليانو وأكثرها مبيعًا: «أن من أكثر ما يثير الإعجاب في كتابات غاليانو هو عثوره على الكنوز المخبَّأة، ونجاحه في إعادة الألق إلى أحداث تاريخية متهتكة، وإذكاؤه الحماسة في أرواح قرائه من خلال شغفه الشديد». اعتبر الكتاب المؤلف المحضور لليسار الثوري في كل من الأوروغواي، البرازيل، التشيلي والأرجنتين في فترة سبعينيات القرن الماضي، حيث عمد فيه إلى تحليل وتشريح ما تعرضت له أمريكا الجنوبية من التصفية العرقية، والاستغلال الاقتصادي، والهيمنة السياسية التي شهدتها في الفترة ما بين الاستعمار الأوروبي، وإلى حدود نهاية الحرب الباردة عقب انهيار الاتحاد السوفيتي سنة 1991. علق إدواردو هيوس غاليانو حين أهدى الرئيس الفنزويلي السابق الراحل، نسخةً من الكتاب إلى الرئيس الأمريكي سنة 2009، خلال مؤتمر القمة الخامس للعالم الأمريكي، بالتصريح: «أنا على يقين أن لا هوغو تشَافيِز نفسه، ولا الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد فَهِما فهما جيدًا، واستوعبا استيعابًا حقيقيًّا نصَّ وعمقَ وبُعْد هذا المؤلَّف».
شغف غاليانو بالكتابة وسرد القصص لحث الجماهير على معرفة التاريخ من وجهة نظر الجلاد والضحية في آن واحد، تُرجم في كتابه الصادر بنسخته الإسبانية سنة 2011 وفي نسخته العربية سنة 2013 عن دار التكوين للطباعة والنشر بعنوان «أطفال الزمن: تقويم للتاريخ البشري»، والذي استوحى عنوانه من جملة تردد لدى شعب المايا في غواتيمالا «نحن أبناء وبنات الزمن». أيضًا في ثلاثيته «ذاكرة النار» التي كتبها في منفاه في إسبانيا، ونشرها في الفترة ما بين 1982 و1986. صنفت الثلاثية كأحد أهم المراجع الأدبية التأريخية؛ إذ سلطت الضوء على الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الأوروبي والولايات المتحدة في حق أمريكا الجنوبية في الفترة ما بين عام 1492، وحتى ثمانينيات القرن الماضي.
يُعد كتابه «مرايا: ما يشبه تاريخًا للعالم» الصادر سنة 2008، وترجم إلى اللغة العربية سنة 2011 عن طريق المترجم الراحل صالح علماني عن دار رفوف للنشر، مرآة تعكس ميول غاليانو إلى نصرة النساء، والتزامه بالدفاع عن قضاياهن؛ إذ يلاحظ العدد الكبير لأبطال أعماله – وخاصة مرايا – من النسوة اللاتي عايشن قصصًا تعبر عن حالة العنف المادي والاقتصادي والتمييز العنصري المبني على أساس الجندر تجاههن.
حين يُغيب الموت كاتبًا عظيما بعظمة اليساري الأوروغواياني إدواردو غاليانو، تظل مؤلفاته وما أنتجه طوال سنوات عديدة من حياكة للكلمات داخل صفحاته البيضاء، شاهد حياة على أن الأسماء والشخصيات لا يمكن أن تنسى بفعل خطيئة الذاكرة، وأنها إذا ما جفت الصحف ستكون تلك الأرواح التي تغير شكلها ومقامها، وأول العابرين نحو الضفة الأخرى من العالم، هناك، حيث تعيد ترتيب اللغة بما يليق بسعادة أو جحيم الإنسان الجديد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست