حين كنت طفلة، أخبرتني ابنة الجيران أنه علي أن أقول “إن الصحراء مغربية” حتى لا يزج بي في السجن، ومنذ ذاك الوقت وأنا أردد أنها مغربية إلى أن تجرأت ذات مقال وكتبت متسائلة “هل الصحراء مغربية؟”.

المقال الذي لم يكن بالنسبة لي سوى تحرير لنفسي من تعليمات التصقت بطفولتي فعطلت تفكيري نحو أي شيء له علاقة بالصحراء، كتب في وقت كان المغرب يستجمع قواه لتوصيات مستشارة أوباما لحقوق الإنسان، وفي وقت كان المعتقلون السابقون في مخيمات تندوف يخبرونني أثناء حديثي معهم وهم مضربون أمام البرلمان بأنهم باتوا يشتاقون لأيام الاعتقال على هذا الإهمال الذي يطالهم من قبل بلدهم.

في ذات الوقت، كان صديق لي أمريكي من أصل مغربي، متخصص في الشؤون الأمريكية، يخبرني أن قضية الصحراء لا تستسلزم كل هذا التسويف، والأموال، وأن حلها يمكن أن يتم بشكل بسيط جدًّا، وهو معرفة عقلية السياسي الأمريكي، وقواعد اللعبة السياسية الأمريكية وكيف يمكن أن يتم إمالتها لصالح المغرب.

في 2007، سيبدأ ترددي على مركز الجزيرة للتدريب وقناة الجزيرة في قطر، وهناك سأنتبه أن الانفصالي الصحراوي يندمج بسرعة في الوسط القطري الجزيراتي، فصحراويو المغرب والموريتانيون تجمعهم القرابة، وطبيعة الشخص الصحراوي أنه يؤازر مواطنه الصحراوي، لذلك طريقهم دومًا مفروشة نحو الجزيرة.

الحديث مع الموريتانيين عن قضية الصحراء يطلعك على النظرة الأخرى للقضية بعيدًا عن الطرح المغربي والطرح الجزائري، ويعرفك على طينة المواطن الصحراوي، مواطن كرامته لا تساوم، شخصية تحب البساطة، والفرح، والإعزاز بها، وتعاند كثيرًا إن تم الإقلال من شأنها، حين كنت أتأملهم كنت أتساءل ماذا لو تعامل حكام المغرب مع القضية بـ”شكل نفسي” يفهم عقلية الصحراوي، الذي يرى في “الفاسي” مجرد إداري مغرور يريد تمرير كرامة الصحراوي في الأرض.

في 2009، سأسافر إلى السويد للدراسة في برنامج وزارة الخارجية السويدية للقادة الشباب، هناك سوف أنتبه إلى هذا الدعم الكبير الذي توليه السويد وبلدان الإسكندنافي للانفصاليين، حتى أن أي صحراوي في المغرب كان يكفي أن يذهب إلى سفارة السويد بالرباط ويطلب اللجوء السياسي ويمنح له فورًا، وهو ما كلف قنصل السويد آنذاك طردها من المغرب لأن الفاسي الفهري اتهمها بتبادل وثيقة تخص الخارجية المغربية مع الانفصاليين الصحراويين.

دائمًا في السويد، سألتقي بصديقي الدكتور في السلم وحوار الحضارات سعيد بحاجين، والذي حكى لي أن الانفصاليين الصحراويين في إسبانيا مدعومون بقوة، وشرسون في الدفاع عن وجهة نظرهم، وأنه يحزنه أن موظفي السفارة المغربية في إسبانيا لا يتحدثون الإسبانية حتى، وأن بقية الجالية غير مهتمة إلا بقوت يومها.

في 2012، وبعد أن أنهيت محاضرتي في ملتقى “الأممية العالمية للاشتراكية” بالمكسيك، سألتني صحفية إسبانية عن “موقفي من نزاع الصحراء”، أجبتها أن “محاضرتي بعيدة عن سؤالها لكني أخبرها وأخبر الحاضرين أني كمغربية أرى أن هذا النزاع قد فات حده، وأنه أصبح تضييعًا للوقت والجهد ولسنوات من التقدم، وأن على البلدين المغرب والجزائر التوقف عن هذا العناد الذي لا يدفع ثمنه إلا المواطن، وأن الحل ليس في قيام دويلة ولكن في قيام اتحاد مغاربي حقيقي”.

في منتصف هذه السنة، قدر أن أزور لأول مرة جنوب المغرب، فكان السفر إلى الداخلة، هناك حيث عالم أخر لا يشبه الرباط ولا الدار البيضاء، جلس أحد الشباب الصحراويين يخبرني بإعجابه بالانفصاليين، وبـ”قوة” شخصية أميناتو حيدر، وعن الفساد المالي للقبائل الصحراوية التي يعتمد عليها المغرب للدفاع عن القضية، وفي خضم الحديث سألته: “كم عدد الانفصاليين في الداخلة؟”، فأجابني: “كل من لا يملك عملًا قارًا فهو مشروع انفصالي”…

لثلاث سنوات كان لدي صديقة من بلد “شقيق” كانت تقدم نفسها للمجتمع الدولي كمدافعة عن الصحراء، أصدقائي من بلدها كانوا يسخرون أن المغرب جعل منها “شيئًا معلومًا”، أصدقائي من المغرب كانوا يسألوني من يقف وراءها، وأنها تسيء للقضية الوطنية، وأنا كنت أخبرها أن صداقتنا لا تمنعني من أن أخبرها أن ما تقوم به يضر بالقضية لا ينفعها، وذات يوم غضبت وقالت لي: “إنها ضحت من أجل الصحراء وأنها تلقت اتهامات عديدة بسبب دفاعها عن الصحراء”، فأجبتها بغضب أن: “نضال فنادق الخمس نجوم والمدفوع الأجر ليس نضالًا، وأن أناسًا ضحوا بأرواحهم من أجل الصحراء”، وكان هذا آخر عهد صداقتنا.

في مقابل تصرف “أخت من بلد شقيق”، كان صديقي الأمريكي اليهودي جوشوا كوهين يبعث لي رسالة صوتية على فيسبوك مع تسجيل فيديو يوضح حديثه إلى أميناتو حيدر، يخبرني جوشوا أنه حين دخل إلى مطعم بواشنطن، وجدها هناك ففتح كاميرا موبايله وتقدم نحوها وأخبرها وهو يسجل لها فيديو أنه كأمريكي يهودي من أصل مغربي لا يشرفه التواجد بنفس المكان الذي تتواجد به “خائنة لوطنها”.

الفيديو الذي نشر على يوتيوب المواطن جوشوا والذي لا يحمل جنسية المغرب، ولا علاقة له بأي تمثيل دبلوماسي للمغاربة في واشنطن، خلق بعد خمس دقائق من نشره جدلًا لم يستطع المدعون بدفاعهم عن الصحراء خلقه طوال سنوات “عملهم”، فـ”لا أحد يريد للدجاجة التي تبيض ذهبًا أن ترتاح”.

أعداء القضية الوطنية ليسوا من الجيران فقط، وليسوا من الأجهزة “الوطنية” المنتفعة من هذه الدجاجة، بل هم أيضًا أولئك المجتمع المدني الذي اختار قضية الصحراء كأسهل طريق لجني الامتيازات، وأحيانًا كثيرة لـ”محاربة البطالة”، و”الشباب أصحاب الدبلوماسية الموازية” الذين يعتبرون الأمر طريقهم نحو سفارات المغرب ليس إلا.

نزاع الصحراء وموقف الانفصاليين ليس موقفًا سياسيًّا بحتًا، ليس لأن الجزائريين يكرهوننا، ولا لأن الإسبان يخافون من عودة المسلمين إلى الأندلس، ولا تلك الخزعبلات التي تردد على أسماعنا، وتستنزف منا سنوات من التقدم، وعلاجه ليس في شراء صمت المعارضين، ودعم المؤيدين، بل حله في مؤسسة اقتصادية قوية، ومعه مؤسسة حقيقية لحقوق الإنسان، الحل في مغرب متقدم، المواطن فيه مضمونة حقوقه، ويقوم بواجبه، والنظام فيه ديمقراطي ديمقراطية حقيقة وليست مشوهة، غير هذا سيبقى دائمًا الصحراوي يفضل إبقاء الوضع كما هو عليه، ليس لأنه فقط يضمن له البيضات الذهبية، بل أيضًا لأنه يبقيه “مواطنًا من الدرجة الأولى”، يطلب النظام وده، ويقتطع من “مغاربة الداخل” “باش يبقا على خاطرو”… وإلى ذاك الحين سيبقى كل “عاطل عن العمل مشروع انفصالي”.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد