عندما تتأمل في نفسك، وفي الآخرين، كثيرا ما تجد أن الإنسان يخادع نفسه، أكثر ما يحاول إقناع نفسه فيه، ويريحها ويزيل عنها هم الفشل أو المعصية أو الخطأ.

إرجاع الأمور للقدر، أكثر ما دمرت به شخصية الإنسان هو إرجاع الأمر كله للقدر، فهو يحاول أن يكون انتقائيا، كلما فشل في شيء، كلما أخطأ في شيء، كلما ارتكب معصية، كلما فعل أرجع ذلك للقدر، وأن هذا قدره، ولو شاء الله لوضع عنه وزره.

خلاص هذا قدري، وهذا نصيبي، والخير فيما اختاره الله، انتبه!

لو أنه أنجز أمرا ما، لكان من أشد المتباهين به، والفخورين بإنجازه وإرجاعه لعبقريته ونرجسيته، وليس إلى القدر، ولهذا كان المشركون يحتجون بالقدر؛ لإثبات شركهم وكفرهم في قوله تعالى: “سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) [الأنعام:148]، والله تعالى يقول في قاعدة قرآنية عجيبة: “بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ”، أي مهما حاول الإنسان أن يتقمص، ويناقش ويجادل ويبرر أفعاله، وما قاله، فإنه أدرى في أعماق نفسه وخبايا نفسه أن الأمر غير ذلك.

إنه أعلم بما فعله حقا، وبما قاله، ولكنه يلقي المعاذير، ويحيل الأمر إلى القدر أمام أقرانه في المجتمع؛ للتستر على الفشل أو الخطأ أو المعصية، والله قال: “بصيرة” دلالة على يقينه وقوة الحجة عليه، لهذا كان القرآن دوما يرفض هذه العلة، هذه الرؤية، يرفض ما يقولونه، إنه الله خلقنا هكذا، الله يريد هذا، لو أراد الله لجعلنا كذا وكذا، القرآن رفض هذا، وجعل الأمر كله باختيار بني البشر.

فلا حاجة أن تحتج بالقدر؛ لأنه الغيب، ومن قال إننا نعلم الغيب! من قال إن هذا الطريق هو قدرنا! الذي يحدث هو أنك اخترت طريقا أو أمرا أو هيأت الظروف لأمر ما، ولما رأيت أن هذا الأمر الذي اخترته، لم يكن وفق مزاجك ورغبتك جعلته على القدر، هذا القدر هو الذي اختار، ولكن الله لا تخفى عليه خافية أبدا، وهو يعلم بهذا، والقدر محيط به، ولكنه كان اختيارك أنت، لذا لم يكرهك على فعل أمرا ما، هو جعلك مخيرا.

الله شاء أن يجعل هذا الكائن الوحيد كائنا مخيرا يعمل ما يشاء باختياره وتفكيره هو، ولو شاء الله لجعل أبا جهل يؤمن، كما آمن الصحابة، لكنه كان مخيرا بين الإيمان والكفر فاختار طريقه، انتبه!

الله يعلم كل شيء، وما هو سابق، وما هو آت، ولكن لا يجعلك مجبرا أن تتبع أمرا يعلمه بالضرورة؛ فهو قد أعطاك الاختيار، وما إن تختار طريقا حتى تغلق باقي الطرق والسبل التي كان من الممكن أن تسلكها، ويحدد طريقك وقدرك.

دائما لو نظرنا في أنفسنا ومن حولنا، نجد أن منطق الفاشلين ليل نهار هو التبرير واختيار الأقدار شماعة للفشل، قدري هذا، ما عندي نصيب لهذا فشلت!

أما منطق المنجزين، منطق الناجحين، فهو إرجاع الأمر للنفس ومحاسبة النفس عند أي خطأ، لا يخجل أو يتخاذل بنسبة الأمر لنفسه يواجه نفسه، يدرك أنه إنسان مخير، ويدرك أنه أخطأ ويترتب عليه الاعتراف بالخطأ، قال تعالى ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) آل عمران 165.

ولو شاء الله أن يجعل القدر ومشيئته تحرك الإنسان فقط لما خلق له العقل والتفكير الحر ليقرر طريقا يريده، لو لم يكن الإنسان حرا في اختياراته في حياته كلها لما كان يشعر بالذنب وتأنيب الضمير عند فشله ومعصيته؛ لأنه كان سيقول: ولم أحزن والأمر قدر لي من الله؟ والله كان يعلمه، ولو شاء لوضع عني هذا؟ ولكن لأنه حر، ولأنه يعلم أنه سوف يحاسب على اختياره هذا الطريق؟ يؤنبه ضميره على كل خطأ.

لذا نحن في ابتلاء، وبلاؤنا في كوننا مخيرين أحرارا في اختياراتنا، ربما قول جان بول سارتر الفيلسوف والأديب الفرنسي يقارب هذا الشيء، رغم كونه ملحدا، وجوديا، حيث قال: “نحن محكومون بالحرية، ولا شيء سوى الحرية”، إذًا نحن مجبولون على أن نختار طرقنا، نختار أمورنا، وبذلك تكتمل إنسانيتنا، وبدونها نفقد إنسانيتنا وتكون زائدا على هذه الدنيا.

اليوم للاسف تقدم لنا البيئات والمجتمعات المهزومة والمكسورة هذا المنطق القدري كنوع من المسكنات والمحفزات النفسية لمجابهة انكسارها وسقوطها في القعر، الأمر في نظرهم كله خير، دون أن يحركوا ساكنا، فهم كسفينة، والريح هي القدر، تأخذهم أينما تشاء، دون أن يقرروا في أي اتجاه يسيرون، إلى اليمين أو إلى اليسار، ربما يصلون لطريق يكون فيه الاختيار غير متاح؛ لأنه قد يكون اختار غيره نيابة عنه هذا الأمر، وهذا أخطر شيء، أن يفرض الواقع والوقائع أمورا تمتزج مع حياتنا وأفكارنا وتصبح من المُسلّمات، في نهاية المطاف يقول الشاعر:

أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه *** عنك، فإن جحودَ الذنب ذنبانِ

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد