مخيفة جدا تلك الأحداث التي تتسارع وتيرتها، تلك الأحداث التي كانت دائما تتكرر في كل العصور؛ لتوقظ الأمم.

الأكثر رعبا من هذا عندما تأتي الأحداث مصداقا لما توقعته سابقا. حينها تصرخ وتصرخ في الناس! للأسف! لايسمعك أحد؛ لضجيج الأحداث من حولنا، أحيانا تتجاوز الحقائق قدرتنا على الاحتمال، ذلك حين تعرى الواقع المظلم بحقيقة أكثر ظلاما وسوادا تتجاوز حدود التوقع والاستعداد، أما أن يقرأ شخص الأحداث قبل وقوعها، ثم تأتي متطابقة تماما وأكثر. فهذا لا شك سيجعل ردة فعلنا: عدم القدرة على الاحتمال.

استيقظت ذات يوم على خبر موت جارنا أبي محمد البناء ـ رحمه الله ـ إثر سقوط حائط المنزل عليه أثناء ترميمه، كانوا دوما ينصحونه بضرورة هدم هذا الحائط المتآكل ليعيد بناءه من جديد مما يضمن سلامته وقوة البناء، لكنه لم يسمع واستمر بالترميم والترقيع، إلى أن جاءت اللحظة لتقول: إن هذا الترميم وقتي ولا ينفع مع حجم الضرر الناتج، كان يقوم بترميمه آخر مرة فسقط عليه الحائط، ربما تكون هذه حادثة مؤسفه وحزينة، خصوصا أنه ترك أطفالا صغارا لم يرونه، ولم يستمر في إعالتهم، لكنها حادثة، دوما تتكرر بصيغ اخرى، بأوجه أخرى، لا ننتبه لها.

دائما ما كانت الاشارات الإلهية وبعث الأنبياء وظهور المصلحين تسير لضرورة ترميم وإصلاح المجتمعات ابتداء من بناء الفرد على أسس سليمة لتجنب عملية الهدم، هناك مجتمعات كانت تستجيب للإصلاح فينفع معها الإصلاح، كقوم نبي الله يونس عليه السلام في نينوى.

وهناك مجتمعات لم ينفع معها الإصلاح، ولا الترميم كبني إسرائيل أيام نبي الله موسى عندما شتتهم الله وجعلهم يتيهون بالأرض وصحراء سيناء طيله 40 سنة؛ إذ قالوا اذهب أنت وربك فقاتلا، وهذا أحد أشكال الهدم لبداية بناء جيل آخر. (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).  [Surat Al-Maeda : 26]

40 سنة هي عمر جيل كامل، وكأن الله أبدل الجيل الذي لم ينفع معه الإصلاح، لم ينفع معه الموعظة، بجيل أكثر إيمانا وعقيدة لركوب سفينة الحضارة والعلو في الأرض، وهناك أمثله كثيرة لهدم مجتمعات لم ينفع معها الإصلاح بالعقاب، وأنزل غضب الله فيهم.

عندما يصل جدار بيت ما أو سور حضارة ما إلى الوهن مما يجعل عملية ترميمه مستحيلة، حتى وإن كان الترميم وقتيا لذا تكون عملية هدم هذا الجدار أو السور هي بداية بناء أكثر متانة، وأكثر جودة له، بل أحيانا تكون عمليات الإصلاح والترميم والوعظ غير مجدية مما يجعلها حجرة عثرة في طريق البناء السليم.

أحيانا يصل الإنسان لمرحلة لا ينفع معه ولا يؤثر فيه قول: هذا حرام وهذا حلال، لمرحلة لا تنفع معه المواعظ والخطب، فقد تشبع بهوى النفس ومات قلبه وماتت روحه، استيقظ ذلك الظلام الدفين في أعماقه، ليعمى القلوب قبل الأبصار، وعمى القلب خطير جدا، لذا عندما يصل الإنسان لهذه المرحلة يجب أن تستخدم لغة أخرى أكثر وقعا في نفسه لعلها تعيد له رشده (مع التأكيد هنا أنه ليس لأحد التفويض الإلهي أو الختم الإلهي لفرض رؤية على الآخرين، وإنما هذا نمط آخر وبحث آخر). هذا على مستوى الفرد، أما إذا كانت على مستوى العقل الجمعي فتلك طامة كبرى.

عندما تستقرأ التاريخ غالبا ما ترى أن الإنسان يدرك الحقائق بعد فوات الأوان “غالبا” وليس “دائما”. غالبا ما يستعيد وعيه بعد أن تنفجر قنبلة مدوية تهز كيانه، ويقول: أين أنا؟ أين كنت مغيبا؟ تماما كما فعل فرعون عندما أدرك الأمور متأخرا بعد أن أيقن بالغرق والموت، قال: “أمنت برب موسى”، لكن للأسف بعد فوات الأوان، ربما كل شخص فينا يوجد فرعون في داخله، في بعض أنماط تفكيره، أحيانا يدرك الحقائق، لكنه يتكبر عليها، يخيل له عقله أنه بمأمن عن الطوفان والغرق، وأن لا شيء سيطاله المسكين، إنسان ضعيف للأسف محدود العقل.

دائما بعد عدة صدمات تهز المجتمعات لكي توقظهم لكي تعيد لهم رشدهم تعطى الفرصه للمجتمعات للإصلاح تعطى الفرصة لتغير دفة السفينة، وان لم يستغلوها، فلا حجة لهم بعد أن يدخلوا مرحله الهدم، وتشتيت هذه المجتمعات والهبوط الحضاري، اليوم أتخوف مما يحصل لنا؛ لأننا في الحقيقة مرت علينا الكثير من الصدمات، لكن للأسف لم يتعظ أحد، عل الناس تدرك الأمور قبل فوات الأوان، علهم يدركون القاعدة “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. وقال تعالى:
“ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”[Surat Al-Anfal : 53]

يقول أستاذي عبد المالك السعدي عن (حضارة القرآن):
معادلة حضارتنا = [(الإعداد المادي + النظر في أسباب هلاك الأمم + البناء الداخلي + الحكمة + عدم التكبر (الحضاري) + الحكم والمحافظة على المنهج + (الإنفاق) الاقتصاد + مواجهة الظلم × الالتجاء إلى الله] / المعاصي.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد