خُلق الإنسان اجتماعيًا بطبعه، يميل بفطرته إلى الاجتماع مع أبناء جنسه، وهذا الميل الطبيعي ينشأ عنه علاقات متنوعة ومتشعبة، كما ينشأ عنه الحاجة إلى التعارف والتعاون، ولكن وبالمقابل فإن للأفراد آراء مختلفة ومصالح متناقضة فيما بينهم، وبالتالي يحدث الاختلاف والخلاف بين الناس وهذا أمر طبيعي ونتيجة منطقية، فالاختلاف سنة كونية في القضايا الإنسانية، اقتضتها المغايرة والتفاضل بين الناس وضرورة انتظام صيرورة الحياة وفرضتها طبيعة الاجتماع الإنساني، تلك الطبيعة القائمة على دافع الاجتماع مع الآخرين. لذلك كان القبول بالاختلاف والإقرار به أمر لا غنى عنه للأسرة الإنسانية بكافة مستويات وجودها أفرادًا وأممًا وحضارات. وذلك إذا ما أرادت أن تنأى بنفسها عـن خطر الانزلاق في شرك آفات الخلاف والجدال والصدام والصراع . وهنا يجدر بنا أن نميز بين الاختلاف والخلاف لغةً واصطلاحًا، ثم الوقوف على الفوارق، بينهما والأسباب المؤدية إليهما والبحث في السبل المنجية من تبعاتهما.
أولًا: معنى الخلاف والاختلاف لغةً واصطلاحًا
أ- معنى الخلاف والاختلاف لغةً
خِلاَف هو مصدر خَالَفَ، كما أن الاختلاف مصدر اختلف، والخلاف هو: المضادة، وقد خالفه مخالفة وخلافًا، وتخالف الأمران واختلفا، لم يتفقا، وكل ما لم يتساوَ فقد تخالف واختلف(1).
إذًا: الخلاف والاختلاف في اللغة: ضد الاتفاق، وهو أعم من الضد، قال الراغب الأصفهاني: الخلاف: أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين(2).
فمثلًا: السواد والبياض ضدان ومختلفان، أما الحمرة والخضرة فمختلفان وليسا ضدين، والخلاف أعم من الضدية؛ لأنه يحمل معنى الضدية، ومعنى المغايرة مع عدم الضدية(3).
والخلاف: مصدر مشتق من الفعل الثلاثي المزيد بالألف خالف أي على وزن فاعل. وأما الاختلاف: مصدر مشتق من الفعل الثلاثي المزيد بالهمزة والتاء اختلف أي على وزن افتعل، وعلى هذا النحو يقال: خالف يخالف خلافًا ومخالفة، واختلف يختلف اختلافًا. إذًا: فمعنى الخلاف والاختلاف هو المضادة والمعارضة وعدم المماثلة.
ب- معنى الخلاف والاختلاف اصطلاحًا
الاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله، وعليه فيكون الخلاف والاختلاف في الاصطلاح هو: أن يذهب كل واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر(4). أو هو: منازعة تجري بين المتعارضين؛ لتحقيق حق أو لإبطال باطل(5). وبالتالي يمكننا القول: بأن الخلاف والاختلاف يراد بهما مطلق المغايرة، في القول، أو الرأي، أو الحالة، أو الموقف.
ثانيًا: الفرق بين الخلاف والاختلاف
يرى البعض من العلماء بأنه لا يوجد فرق بين الخلاف والاختلاف، بل هما مترادفان، و بالمقابل هناك من العلماء من يفرق بينهما. إذًا لقد فرق البعض من العلماء بين الخلاف وبين الاختلاف في الاصطلاح، وكان هذا التفريق من عدة وجوه ذكرها أبو البقاء الكفوي في كتابه الكليات، ونذكر منها الآتي:(6)
1- (الاختلاف): ما اتحد فيه القصد، واختلف في الوصول إليه، وأما (الخلاف): يختلف فيه القصد مع الطريق الموصل إليه.
2- (الاختلاف): ما يستند إلى دليل، بينما (الخلاف): لا يستند إلى دليل.
والتفرقة بين الخلاف والاختلاف بهذا الاصطلاح الذي ذكره أبو البقاء الكفوي وغيره، لا تستند إلى دليل لغوي، ولا إلى اصطلاح فقهي. فالخلاف والاختلاف في اللغة ضد الاتفاق، فهما بمعنى واحد، ومادتهما واحدة.
وقال المناوي: الاختلاف افتعال من الخلف، وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور.(7)
لكن قد يوجد فرق دقيق بين اللفظين من جهة الاستعمال؛ فكل منهما يستعمل باعتبار معين في حال المختلفين، وإن كان معناهما العام واحد، وإنما وضعت كل واحدة من الكلمتين للدلالة على هذا المعنى العام من جهة اعتبار معين.
ومما سبق نستطيع أن نوجز الفرق بين الاختلاف والخلاف في النقاط الآتية:
1:الاختلاف هو التباين في الرأي والمغايرة في الطرح، وأما الخلاف هو المخالفة أوالمعارضة.
2: الاختلاف يعني نوع من أنواع التكامل والتناغم، وأما الخلاف مشكلته أنه ليس فيه تناغم بالعكس من الاختلاف.
3: الاختلاف ينصب على الرأي، بينما الخلاف ينصب على الشخص.
4: الاختلاف لا يدل على القطيعة، بينما الخلاف يدل على القطيعة.
5: الخلاف: هو افتراق طرفين في الوسائل والغايات، بينما الاختلاف: هو افتراق الطرفين في الوسائل والغاية واحدة.
6: ربما يؤدي الاختلاف الى خلاف، ولكن ليس دائمًا. ولكن كل خلاف ينتج عن اختلاف.
7: إن الاختلاف يستعمل في قولٍ بُني على دليلٍ، والخلاف قول لا دليل عليه.
8: أحيانًا يستعمل(الاختلاف والخلاف) أحدهما مكان الآخر، إلا أن الغالب استخدام الاختلاف فيما كان محمودًا ومقبولًا، والخلاف في المذموم منه وهو قرين الفرقة والنزاع.
ثالثًا: أسباب الاختلاف
إن أسباب الاختلاف كثيرة جدًا ويمكننا أن نجملها ونوجزها في النقاط الرئيسة الآتية:
1: تفاوت الناس بالفهم وبمداركهم العقلية.
2: تفاوت أغراضهم ومقاصدهم ومصالحهم.
3: التباين في المواقف والمعتقدات بين الناس.
4: النزعة الفردية للإنسان لامتلاكه شعورًا طبيعيًا بذات مستقلة تدفعه إلى التميز والتفرد.
5: اتباع الهوى والتعصب للرأي الشخصي، وهذا السبب لا شك أنه مدعاة للخلاف المذموم.
6: التفاوت المعرفي: وهذا يقع في اختلاف شخص عن آخر، كما يقع للشخص الواحد، فإنك تجد العالم يقول أقوالًا معينة، وكلما زاد علمه أعاد النظر في هذه الأقوال.
7: اختلاف الظروف والأحوال: قد تختلف الظروف والأحوال والبيئات والأوضاع، من حيث القوة والضعف، والشدة والرخاء، والغنى والفقر.
والأسباب الموصلة للخلاف والاختلاف كثيرة جدًا ولكننا اقتصرنا على أهمها وأكثرها شيوعًا فيما نعتقد.
خلاصة القول: إن الاختلاف بين الناس أمر طبيعي وسنة من سنن الحياة علينا أن نحسن التعامل معه بشكل إيجابي وفعال لنحقق التفاهم والتعاون. وعلينا أن ندرك أيضًا بأن الاختلاف والخلاف لابد منهما في حياة الناس.
ولذلك قيل: اختلاف الرَّأي لا يفسد للودّ قضيّة، بمعنى أنه يجب ألا يؤثر الخلاف والاختلاف على حُسن المعاملة وعلى وجود المحبة والاحترام بين المتخالفين، ولعل في هذه المقولة تشخيص للداء وتقديم الدواء الناجع والعلاج الشافي لمشكلة الخلاف والاختلاف.
المصادر والمراجع:
1: ابن منظور، جمال الدين محمد، لسان العرب، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1955 م، (4/ 181-192).
2: الأصفهاني، الراغب، مفردات ألفاظ القرآن، ط2، دار القلم، دمشق، 1992م، (ص294).
3: عوامه، محمد، أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين، ط2، دار البشائر، بيروت، 1998م، (ص8).
4: الفيومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير في غريب شرح الوجيز، المكتبة العلمية، بيروت: (ص179).
5: الجرجاني، علي بن محمد، التعريفات، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت،1983م، (ص135).
6: الكفوي، أبو البقاء أيوب بن موسى، الكليات، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1998م، (ص61).
7:المناوي، عبد الرؤوف، فيض القدير، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط1، 1356هـ: (1/ 209).
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست