إني أقصد باختلاف البناء الذي هو عجلة أساسية في بناء حضارة، وبناء مجتمع قادر على الاعتماد على نفسه.
إن وجود أكثر من وجهة نظر أو رأي حول الموضوع الواحد لا يمكن تفسيره على أنه حالة سلبية، بل العكس من ذلك؛ فإنها حالة إيجابية مفيدة لابد منها في أي نقاش يجري بين مجموعة من الأفراد، لما في ذلك من فوائد كثيرة وكبيرة، فأعقل الناس من جمع إلى عقله عقول الناس، فيستفيد المرء من تلك الآراء والمناقشات التي تدعم رأيه وتنصره، وتكون دافعاً له للاعتداد برأيه، وعدم الحياد عنه، أو قد تكون متضاربة ومختلفة مع رأيه ومخالفة لوجهة نظرة، وفي هذه الحالة يستفيد أيضاً من تلك الآراء في تصحيح بعض آرائه وأفكاره الخاطئة، إذا كانت آراء الآخرين وأفكارهم أشمل وأعمق وأدق من آرائه ووجهة نظرة وذلك بعد اقتناعه واعتقاده شخصياً بها، ففي نهاية المطاف لابد من أن يصل كلٌ من طرفي النقاش إلى محصلة نهائية يتفقون بها ومحطة نهائية يقفون عندها.
علينا أن نتعلم متى نختلف ومتى نتفق علينا أن نعرف كيف ندير خلافاتنا؛ لعلنا بذلك نضع أيدينا على كنه الداء وبداية الدواء. و نقطة البدء عند المتحضرين جميعا ـ من الغرب أو الشرق ـ أن الاختلاف في الرأي أمر طبيعي وأن الاختلاف في الرأي لا يعني بذاته أيضا ً أن أحد المختلفين على صواب كامل وأن الآخر على خطأ كامل.
وأن الحقيقة المطلقة لا يستطيع أحد أن يدعي أنه وحده هو الذي يلم بها ويملكها وأن غيره محروم منها تماما، هذه هي القضية الأولى التي يجب أن نقتنع بها تماما إذا كنا نريد حقاً أن نتعلم كيف نختلف كما يختلف المتحضرون، وأن نجعل من الخلاف بداية للالتقاء ثم الاتفاق.
علينا أن ندرك بوضوح أن الاختلاف أمر طبيعي، وأنه لا أحد وحده يملك الصواب، وأن هذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومن ثم فإننا نستطيع أن نقول إن حق الخلاف في الرأي هو من الحقوق الأساسية لبني الإنسان.
عزيزي(عزيزتي) القارئ! تعال معي في مناقشة تمثيلية؛ للتعرف على اختلاف بناء:
السومريون هم من اخترعوا العجلة أول مرة، كيف تم اخترعها؟ لنفرض أن شخصين جالسان يتناقشان حول شكل عجلة، الأول يقول افترض أن شكل العجلة مربع، يرد عليه الثاني إن شكل العجلة دائري، يصر الأول على كلامه، والثاني يصر أن كلامه أصح، يأتي طرف ثالث، ويقول لهم: لنطبق أفكاركما، ينتج عن تجربته أن العجلة دائرية، ويتفق الطرفان على أن العجلة دائرية، اختلاف ثم إجراء تجربه، ثم اتفاق، بذلك يكون اختلاف بناء.
وما اختلاف العلماء فيما بينهم إلا خير دليل على أن الاختلاف يساعد في البناء والتطور، نرى كثيرا من العلماء في كل الاختصاصات يختلفون في النظريات التي تؤدي إلى تطور الحياة، وفي آخر الأمر يخرجون ويعترفون أن ثمرة نجاحهم هو اختلافهم فيما بينهم.
أنا لا أنكر أن للاختلاف مساوئ ومحاسن، لكل شي مساوئ ومحاسن، فالظلام سييء؛ لأننا ربما لا نستطيع القراءة، ولا نستطيع تمييز الأشياء فيما حولنا، ولكن محاسنه تساعدنا على النوم، كذلك النور يساعدنا في كثير من الأشياء، لكن لو لا الظلام لما استطعنا النوم، اختلاف الظلام والنور هو ذاك الاختلاف البناء.
نستطيع أن نقول إن ما يجري في الوقت الحاضر في دول العالم المتقدم هو نوع من الاختلاف البناء؛ الأحزاب فيما بينهم يتنافسون ويختلفون اختلافا كبير، وعندما تجري انتخابات يفوز حزب، وسيكون هو الحزب الحاكم، ويعترف حزب آخر بخسارته، ويكون معارضا، وما بينهما هو الاختلاف الذي يؤدي إلى دوران عجلة التطور، وبناء الحضارة، وهذا من محاسن الاختلاف.
لن تقوم أية حضارة على وجه الأرض إذا لم يكن قاعدتها الأساسية هي الاختلاف البناء.
هناك نوع من الاختلاف لا يساعد في بناء الحضارة أبدا كاختلاف أميرين على عرش أبيهم، يتقاتلون فيما بينهم، وذلك يؤدي إلى انهيار المملكة، وسقوطها بيد أعدائهم، فهم لم يسعوا إلى بناء مملكتهم باستغلال خلافهم وتقديم الأفضل للمملكة.
ما يجري في بلدان العربية بنظري هو الجانب السيئ من الاختلاف؛ لأنه لا يساعد على البناء، بالعكس، هو يؤدي إلى الهدم، وفي نظري، إن المجتمعات العربية خاصة، والإسلامية عامة، دائما تروج للاتفاق، ومن وجهة نظري إنه خطأ. مثال على ذلك:
لو خرج علينا حاكم أو سلطان أو ملك أو رئيس، وقال لنا: إن الكرة مربعة، وليست دائرية، فإنه يجب على من تحت سلطته أن يتفقوا معه ولا يختلفوا معه أبدا.
هذا شي يؤدي إلى جمود عجلة التطور والحضارة، وما يحدث لنا خير دليل؛ بسبب أننا نروج لاتفاق تام، بدون مناقشة، نعم أنا معك، الاتفاق شيء لا بد منه، ولكن للاتفاق محاسن ومساوئ، كما هو الاختلاف، هناك في بعض الأوقات يجب علينا أن نتفق، وهناك أوقات يجب علينا أن نختلف.
نعم هذه هي ثمرة الاختلاف الراقي الصحيح الذي به تُعبّد المجتمعات طريقها نحو السمو والرفعة، وترتقي بتكامله سلم المجد والعظمة، حيث تتلاقى الأفكار وتتقارب الأرواح بمزيج من الدفء والحب والتسامح، تذوب من خلاله روح التعصب ونزعة الجموح، وتفصح المبهمات عن حقيقتيها، فتتفتح آفاق واسعة، وأبواب مغلقة في ميدان فسيح يضج بالآراء والأفكار المختلفة والمتضادة تارة، والمتقاربة تارة أخرى، فمنها ما ينحسر ويموت، ومنها ما يرفع راية النصر والصمود.
وفي نهاية المطاف لا يصح منها إلا الصحيح ليكون نواةً صالحة تغرس في نفوسنا فتملؤها أماناً وسكينة فنتقدم ونتطور ونرتقي، فالحوار وتمازج الأفكار وتواصل العقول وتقاربها هو الوسيلة الأمثل للارتقاء لما هو أفضل وأسمى، وهو الطريق العقلاني والشرعي والعلمي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست