قطنا المدينة الريفُ دمشقية، والتي في طريقك إليها، تسلم على داريا العنب والدم، ومعضمية الشام البطلة، وتشم ريح ياسمين الشهداء في جديدة عرطوز والفل ينبعث من قبور شهداء جديدة الفضل، ثم أنت في قطنا عروس وادي العجم، الثائرة المكبلة، فهي محاطة بالعسكر والطائفية، بالثكنات والمدرعات، بالمخابرات والشبيحة، وزاد من أذاهم فيها أن قطعوها بثلاثين حاجز ونيف، ومئات من السواتر الترابية، خالية من سكانها إلا ما ندر، فكل بيت لا بد له شهيد أو معتقل أو جريح أو مفقود أو مهجّر، ومنهم عائلات فقدت كل من سبق سوية، بعد مرور أربع سنوات ودخول السنة الخامسة على طَرْقِ تلك المدينة لباب الحرية في وجوه المجرمين.

 

مدينة قطنا – عدسة شاب قطناوي

القرار الصعب:

 

كان الموقف صعبًا جدًا، والكل يرتقب بعين الحيرة والقلق، متى نعلنها ثورة؟، متى نرفض الخنوع المترسخ؟، متى سنشعل الأرض بالصوت الهدار؟


كلماتٌ تدور من لسان إلى لسان، ومن شابٍ إلى آخر، من ثائرةٍ إلى أختها، درعا انتفضت منذ شهر والتحقت بها مدن ريف دمشق وحمص واللاذقية وإدلب وحماة ودير الزور، الكل أشعل فتيلها ونحن ننتظر!!

 

لم يكن الخروج في مظاهرة في وسط مدينة قطنا أمرًا سهلًا أو عاديًا، فهي محاطة بثلاثة مساكن عسكرية للجيش والمخابرات والشبيحة، ناهيك عن الفرقة العاشرة، والحرس الجمهوري والألوية والكتائب المتفرقة حولها، ولم يكن الأمر عن جبنٍ من شبابها، فمن أشعل أول مظاهرة في حي المزة وسط دمشق في الـ 25/3/2011 هم شبان هذه المدينة، ووصلت إلى الأوتوستراد بقيادة حجي قطنا (الشهيد أحمد سعيد القادري أبو مصعب محمولًا على الأكتاف)، وصُورت بكاميرا قناة الجزيرة من أمام مكتبها هناك، وإن لم تكن مدينتهم قد ثارت بعد، فقد تظاهروا في رفاعي كفر سوسة، في المعضمية، في دوما، الثورة كانت بدأت في قلوب أهلها من أول ساعة.

 


(مظاهرة شباب قطنا في حي المزة بدمشق في 25/3/2011 في جمعة العزة، بقيادة الشهيد أحمد سعيد القادري)

 

 

أما القرار الصعب، والذي يحتاج انغماسيًّا لا يأبه العواقب، فيبدأ مشوار المدينة مع أخواتها، فمن صلاة الجمعة في جامع الشيخ إبراهيم الغلاييني، حيث تجتمع الحشود، والخطيب (أحد تلامذة الشيخ رجب ديب) يثرثر ويشتم في الثورة وأطفالها، وهو ما بدأه منذ انطلاقتها في درعا، يحدث عن المؤامرة الكونية، ويشرح كيف أنّ إسرائيل تحرك هؤلاء الخونة، كان الخطيب يثير اشمئزاز الشباب ويحذرهم من الخروج في المظاهرات، وفي مشهد ليس له مثيل وقف أحد الرجال، وصرخ به (خسئت يا عدو الله)، ربما أراد أن يشعلها ثورةً على شيوخ السلطان أيضًا، وهبّ المسجد كله خلف ذاك الرجل (الشهيد أمجد نجم الدين)، ليبدؤوا مشوار الحرية.

 


صورة من أمام الجامع الغلاييني في مدينة قطنا ويظهر مكتوب على حائطه (الله أكبر – حرية) بعدستي

 

كان اسم الجمعة (الجمعة العظيمة) في 22/4/2011، في تلك اللحظات لا يمكن وصف الصورة التي كانت هناك، ثار المسجد كله، وكأن الآيات تنزل من السماء، نعم قوموا إلى ثورتكم، قوموا وهزوا الأرض، زلزلوا عروش الطغاة، وخرجت الجموع تهتف وتنشد: الله أكبر حرية، الله أكبر عليهم – ظلام الله يمحيهم، أكلوا البيضة والتقشيرة وخلونا على الحصيرة، سلمية – سلمية، وكذبنا أنّ شعبنا واحد، هتفنا الشعب السوري واحد، ولكنه لم يكن كذلك أبدًا.

 

يومها لم يكن حلمًا تحقق فحسب، بل معجزةٌ من غير نبي، كرامةٌ إلهية، والسماء تفتحت تشارك بذرات أمطارها، تحمل الدعم السماوي، تغسل الخوف المتعشش بالقلوب، يومها كان الشباب يطيرون فرحًا، والفتيات يغازلن بعضهن بأبطالهن الجدد، العيون تبكي دموع مجد، لا وصف دقيق للموقف، لم يكن أحدٌ يدري أنّ العالم كله سيكون ضد ثورتهم، ضد حقوقهم، ضد الأمل، ضد أحلام الملايين، ضد شهقات الثكالى، ضد الآباء المكلومين، ضد تراث حلب كله، وضد تاريخ حمص بوليدها، ضد جموعها السلمية، ضد مشمش الغوطة، ضد زيتون إدلب، ضد عمري درعا.

 

يومها رأينا القدس المسلوب أمامنا يبارك ثورتنا، والملائكة تحفنا، وشعلةٌ ما تنير الدرب المظلم، العدل يعود أدراجه إلى الأرض، لكن الحقيقة أننا لم نرَ شيئًا!!!

 

فقتلونا وقتلوا أحلامنا، قتلوا الشباب وحطموا آمال البلد فيهم، قتلوا الأمهات بأبنائهن، يتموا البيوت وعتباتها، ثكلوا أفئدة السوريات، قهروا رجالًا أبين الذل يومًا، اجتاحوا الطفولة بإرهاب الدولة، شردوا النساء وكن عزيزات، دمروا المنازل على رؤوس أصحابها، اقتلعوا الأشجار المعمرة.

 

وبعد أربع سنوات لا تزال قطنا بعد أن فقدت أكثر من 200 شهيد، وأكثر من 300 معتقل لا يُعرف عنهم شيء، مئات الجرحى، مئات الأيتام، عشرات الصور المفجعة تحكي عن شهداء قضوا تحت التعذيب، غوطتها (الحلالة) قاحلة فقد جعلوها جرداء، واحتلوا ذرات ترابها، وهوائها، ومائها، قطنا لا شباب فيها إما على الجبهات أو في المعتقلات أو في القبور أو مبعثرين في دول اللجوء.

 

كانت ذكرى جميلة وقاسية، ما زالت المدينة تذرف دمًا عليها كما كل سورية تنتظر رحمة ربها.


(صورة من أول مظاهرة في المدينة في 22/4/2011، الجمعة العظيمة أمام كنيسة السريان، وللمزيد من الصور انظر صفحة عدسة شاب قطناوي على الفيسبوك

 



 

 

 

 

 


هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد