قرأتُ وأقرأ عن إعلانات تكتب على شكل ملصقات دعوية إلى حضور ندوات ومحاضرات رقمية تخص غالبيتها ميدان التعليم بسبب تداعيات فيروس كورونا، الذي فرض- مما فرضه من شروط صارمة – التعليم عن بعد صيغةً مؤقتة ترقيعية يبدو أنها ستستمر معنا بالرغم من أن المؤشرات تقول عكس ذلك في ظل هزالة البنية التقنية، وهشاشة البنية الاجتماعية لمختلف الأسر المغربية مما يجعل الكثير من الطلاب والتلاميذ لا يستطيعون مواكبة دروسهم إما ضعفًا في تدفق الإنترنت أو عدم توفر الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية أو عدم الاستطاعة في توفير ثمن الإنترنت.

في دراسة لحالات طلاب يتابعون دراستهم في الجامعة، تبين أن الطالب الأول، وهو منحدر من الوسط القروي، لا يتوفر له هاتف ذكي ولا حاسوب أو لوح ذكي، ولا تصله أي أخبار حول الحصص المبرمجة على تقنيات التواصل التي يدعو من خلالها الأساتذة طلابهم للالتحاق بها، بل والأكثر من ذلك لا يملك أدنى فكرة عن موعد بداية الامتحانات إلا إذا اتصل عبر هاتف خلوي غير ذكي بأحد أصدقائه المتواجدين بالمدينة، بالقرب من الكلية، يطلعه على آخر المستجدات، وحتى يتمكن من نسخ الدروس الموضوعة في موقع الكلية يلزمه التنقل إلى المدينة في ذهاب وإياب سيكلفه ما لا طاقة له به؛ إذ يؤكد أن الدروس الحضورية التي تلقاها في فصول سابقة كانت أكثر نجاعة بالرغم من أنه كان يعاني من أزمة المصاريف التي يتقاسمها كافة الطلاب، لذلك- فحسب قوله – فإن التعليم عن بعد في ظل الفروق المجالية تضرب بشكل غير مباشر مبدأ تكافؤ الفرص.

الطالب الآخر من المدينة، يملك هاتفًا ذكيًّا ويجيد التعامل مع كل تقنيات التواصل التي تتيح متابعة الدراسة عن بعد، لكنه يصرح أن المشكلة في هذا النمط هو قلة المحاضرات بل وغيابها كليًّا بالنسبة لطلبة الفصل الأول، وحتى إنها غير كافية لاستيعاب كل شيء، فهو- على حدود تصريحه – لا يعلم أي منهجية يجب اتباعها لتحرير إجابات الامتحان، ولا علم له بطبيعة الامتحانات، وحماسه قد قل حين علم بتعليق الدراسة حضوريًّا، فالجامعة على حد قوله ليست محاضرات فقط؛ بل هي الحياة التي تعاش خارج أسوار القاعات والمدرجات من انخراط في العمل السياسي النقابي الطلابي، وحضور لحلقات النقاش والدردشات، فلا تغذية للفكر دون الموازنة بين الدراسة والسياسة لصنع طالب جامعي حقيقي، وللأسف هذا لم يحدث بسبب اعتماد صيغة التعليم عن بعد.

الطالب الثالث، يملك هاتفًا ذكيًّا وحاسوبًا ويملك القدرة على متابعة الدراسة في السلك الثاني، هو يثمن الفكرة بسبب قدرته على الموازنة بين عمله كموظف وبين الدراسة في سلك (الماستر) عن بعد مما يتيح له ضرب عصفورين بحجر واحد، وهذا لا يعني أن كل الطلاب يتقاسمون ذات الرأي.

طلاب آخرون في السلك نفسه وفي شُعب مختلفة، ومن خلال ملاحظة بالمشاركة تبين أن كل بداية للحصة يقومون بالدخول عبر الرابط ويعطلون  الميكروفون و الفيديو ويخفضون من الصوت أو لا يفعّلونه من الأساس، ويتركون الهاتف جانبًا ثم يشرعون في لعب النرد أو مشاهدة مباراة كرة القدم أو يتجولون خارجًا إلى حين شعورهم بدنو نهاية الحصة، يتفقدون هواتفهم ويستمعون لآخر مداخلة الأستاذ ثم ينهون الاتصال وبالتالي الخروج من اللقاء الافتراضي.

إن التعليم الافتراضي لن يكون بمقام التعليم الواقعي، فرقمنة حقل التربية يحتاج لعقود من الزمن والبدء لا يجب أن يكون بالتدرج من التعليم الأوّلي إلى حدود التعليم العالي، أما القفز من أسلاك تعليمية وتغطية بؤس الحقيقة بشعارات واهية فهذا لن يكلف إلا جهلًا آخر، فمعظم الدول المتقدمة ذات الإمكانيات العالية لم تستطع مواكبة التعليم عن بعد واعترفت بفشله، فالتلميذ والطالب بحاجة إلى الأستاذ، بحاجة إلى التفاعل والنقاش، الطلبة مثلًا يحتاجون لبناء الدرس مع المحاضر وهذا لن يتأتى عن بعد، الطلبة بحاجة إلى وعي سياسي وثقافي، لن يتشبعوا به عبر منصات «غوغل» أو «زووم»، وإن كان النمط هذا خيارًا؛ فيجب تقليص الفوارق الاجتماعية في الأفق القريب، ومحوها في المدى البعيد، وحينها حري بنا أن ندعو إلى محاضرة رقمية ونعقد ندوة افتراضية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد