مصطلح الحروب القذرة يشير إلى حملة شنتها الديكتاتورية العسكرية الحاكمة في الأرجنتين ضد المعارضة السياسية اليسارية والمشتبه بانتمائهم لذلك التيار، وقد بدأت تلك الحملة في عام 1976 عقب الإطاحة بإيزابيل بيرون رئيسة الأرجنتين في ذلك الوقت واستمرت حتى عودة الحكم المدني عام 1983. وأكثر ما يميز تلك الحرب أن الدولة مارست الخطف والتعذيب والقتل ضد المعارضة السياسية، وتشير التقديرات إلى أن ما بين 10000 إلى 30000 مواطن قد قتل في تلك الفترة “واختفى” العديد منهم حيث احتجزتهم السلطات ولم يسمع عنهم أي شيء بعد ذلك. أما القواميس فيعرف بعضها ذلك المصطلح “الحروب القذرة” بشكل عام بأنه:

“حملات عنف تشنها الشرطة السرية أو المؤسسة العسكرية ضد المتمردين ويستخدم فيها القتل والخطف والتعذيب ويكون الضحايا غالبًا من المدنيين”.

الحروب القذرة التي أعنيها تندرج تحت المعنى اللغوي الذي ذكرته توًا وتتمثل في ثلاثة أحداث تابعت كلاً منها بشكل منفصل، ولكن حين أعدت قراءة تلك الأحداث بدأت تلوح بعض الأمور التي تشير إلى ترابط ما بينها، وحين أخضعتها للدرس والتحليل تكشفت أمور جعلتني أخال وكأنني أشاهد فيلمًا سينمائيًا يعرض أبشع الأعمال المخابراتية القذرة العصية على التصديق.

تبدأ القصة بما درج الإعلام على تسميته “مذبحة بيسلان”، وهي مذبحة أعقبت أزمة وقعت في مدرسة كبيرة في بلدة بيسلان في روسيا بين 1 و3 سبتمبر 2004، حيث نفذت مجموعة من الشيشانيين عملية اقتحام للمدرسة واحتجزوا أكثر من 1100 شخص كرهائن. وبعد ثلاثة أيام من محاولة التفاوض مع المسلحين الشيشانيين، اقتحمت القوات الروسية المدرسة مستخدمة الدبابات والأسلحة الثقيلة، وانتهت العملية بمقتل 334 رهينة من بينهم 186 طفلاً.

بدت العملية في منتهى الوحشية ولم يقصر الإعلام الروسي في إظهار الصورة المخيفة والوحشية “للإرهابيين”. بيد أن الأمر لم يبدُ بتلك البساطة، فقد ظهرت رواية أخرى تشرح الجوانب التي لم يتناولها الخطاب الإعلامي السائد تمثلت في شهادة الصحفية الروسية “آنا بوليتكوفسكايا” بمقال نشر بموقع صحيفة الجارديان البريطانية في 9 سبتمبر2004. أشارت السيدة بوليتكوفسكايا إلى تواتر الأنباء بأن “رئيس أنغوشيا السابق روسلان أوشييف – الملفوظ من السلطة بسبب موقفه من الأزمة الشيشانية – يدير تفاوضًا مع محتجزي الرهائن في بيسلان.

سارت خطواته وحيدة نحو فناء المدرسة لمقابلة الإرهابيين الذين رفضوا أن يفاوضوا أحدًا غيره، بعد أن أضاع رجال الأمن 36 ساعة من الوقت حيارى حول: من يتقدم منهم للتفاوض؟ نجح أوشييف في أن يخرج بثلاثة أطفال ثم 26 تلميذا وأمهاتهم. غير أن الإعلام الروسي هضم حق الرجل وشجاعته في إجراء التفاوض وما حققه لصالح الرهائن (لا مفاوضات، لا أحد قد ذهب في الداخل)”.

تشير السيدة بوليتكوفسكايا أيضًا إلى أن الخبر الرئيس في الإعلام تناول “توجه بوتين إلى بيسلان ليلاً، مع عرض لقطات لبوتين يشكر قوات الأمن الخاصة، ونرى في العرض رئيس أوسيتيا دون أن نسمع كلمة عن أوشييف وجهوده.

وما دام بوتين لم يشكر الرجل أو يذكره فلا بد أن يصمت الإعلام”. أرادت السيدة بوليتكوفسكايا في شهادتها أن توضح أن الأزمة لم تعدم سبل الحل وكان من الممكن أن تنتهي بشكل آخر لولا تعامل السلطات الروسية مع الأزمة بالشكل الذي أوضحته. بل بدا وكأن السيدة بوليتكوفسكايا تغمز في بوتين بشكل واضح حيث أشارت إلى تجاهل محاولات أوشييف للخروج من الأزمة والتي أدت إلى تحرير 29 رهينة الأمر الذي أنبأ بإمكانية التفاوض، بل والأخطر من ذلك هو ما ذكرته السيدة بوليتكوفسكايا في شهادتها بأنها كانت تحاول التوجه في أسرع وقت ممكن لمسرح الأحداث وذكرت “كم كانت ليلة طويلة تلك التي قضيتها في مطار فنوكوفا في موسكو. كان رهط من الصحفيين يحاولون العثور على رحلة متجهة إلى حيث الأزمة في القوقاز بعد طول تأخير وانتظار.

لم يكن من الصعب استنتاج أن جهة ما يعنيها تأخير وصولنا إلى هناك. تناولت هاتفي المحمول وتناقشت بصوت مسموع: “نعم. مسخادوف [الزعيم الشيشاني والرئيس الثالث لجمهورية الشيشان]، أنوي التحدث معه، نعم. أنوي إقناعه. لقد مُنعنا لفترة طويلة من استخدام هواتفنا النقالة بحرية، بحجة أن المكالمات يتم التنصت عليها، لكن الآن حالة استثنائية”. ذكرت السيدة بوليتكوفسكايا أن السائق قد أخبرها وهي تستقل الحافلة الصغيرة بين المطار والطائرة أن جهاز الأمن الروسي كلفه بأن يضمها إلى رحلة روستوف المقلعة الآن.

وبينما كانت تصعد سلم الطائرة كانت عيناها تلتقي بثلاثة رجال تفيض أعينهم عداوة وبغضاء. وذكرت أنها اعتادت تلك النظرة التي يتسم بها رجال المخابرات الروسية. بعد أن احتست كوبًا من الشاي على متن الطائرة انتابها شعور متسارع بفقدان الوعي.

لم يتبق في ذاكرتها التي أصيبت بالتشوش سوى كلمات المضيفة: “تماسكوا نستعد للهبوط”. فتحت عينيها بعد ذلك على امرأة منحنية أمامها تطل عليها في سرير بمستشفى روستوف المركزي، بادرتها الممرضة: “أهلا بك ثانية في هذه الدنيا، لقد كانت حالتك لا أمل فيها.. لقد حاولوا تسميمك يا عزيزتي”.

أما أطباؤها المعالجون فقد همسوا لها: “بأوامر علوية تم التخلص للأسف من كل التحاليل الطبية التي أجريت لك في المطار والتي تؤكد تسممك”. آنا بوليتكوفسكايا صحفية وكاتبة وناشطة حقوق إنسان روسية عرفت بمعارضتها الشديدة للحرب الشيشانية وللرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقد نشرت العديد من الكتب في انتقاد النظام الروسي ومناصرة القضية الشيشانية أبرزها كتاب “روسيا بوتين”.

وكل ذلك يثير الشكوك حول دور المخابرات الروسية “FSB” في تسميمها. وحين تحدثت بذلك مع إحدى الاشتراكيات، شككت كثيرًا في الأمر وقالت لي “لا تصدق كل ما ينشر على الإنترنت” ورأيت أن ردها أميل للطبيعة البشرية التي تنكر كل ما يشين ما تحب وتؤمن به أكثر من ميلها إلى استقامة المنطق والتسليم بالدليل. ونسيت الأمر حتى فوجئت يوم 7 أكتوبر عام 2006 بخبر تناقلته شتى وكالات الأنباء والقنوات الإخبارية يفيد أن الصحفية الروسية آنا بوليتكوفسكايا قد عثر عليها مقتولة بالرصاص في المصعد الكائن في المبنى السكني الذي تقطنه بالعاصمة.

الحدث الثاني يبدأ بظهور السيد ألكسندر ليتفينينكو وهو يتهم بوتين صراحة باغتيال الصحفية الروسية آنا بوليتكوفسكايا. السيد ألكسندر ليتفينينكو – الذي درج الإعلام على تسميته بالجاسوس الروسي – هو عميل سابق لدى الاستخبارات الروسية في مجال مكافحة الإرهاب والجرائم المنظمة، وقد نفذ أعمالاً قذرة ضد الشيشانيين في حقبة الرئيس بوريس يلتسن، ولكن الرجل انقلب بعد ذلك رأسًا على عقب وأصبح من أشد المناصرين للقضية الشيشانية ومن المعارضين للرئيس الروسي بوتين. في عام 1994، التقى ليتفينينكو رجل الأعمال الروسي الثري بوريس بيريزوفسكي وكان يحقق في محاولة اغتيال تعرض لها بيريزوفسكي، ويبدو أن علاقة الرجلين قد توطدت بعد ذلك.

ويعد بيريزوفسكي واحدًا من أغنى الرجال في روسيا وسرعان ما دخل في الدائرة المقربة من يلتسين وعائلته، وقد جمع ثروته من خلال شراء الأصول المملوكة للدولة بأسعار زهيدة للغاية أثناء اندفاع روسيا نحو الخصخصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وأصبح بعد ذلك واحدًا ممن يطلق عليهم “الأوليجارشية”، وهي مجموعة صغيرة من كبار رجال الأعمال الذين أحكموا السيطرة على اقتصاد البلاد. وعلى الرغم من أن بيريزوفسكي لعب دورًا رئيسًا في ضمان فوز بوتين في الانتخابات الرئاسية عام 2000، فقد ساءت علاقة الرجلين بعد ذلك على نحو متسارع بعد أن أحكم بوتين قبضته على السلطة وانتزعها من يد “الأوليجارشية” بنجاح.

وقد أصبح بيريزوفسكي من أشد المعارضين لبوتين ونظامه ومول حزب روسيا الليبرالي الأمر الذي انتهى بكارثة عندما تم اغتيال اثنين من أبرز أعضاء الحزب. بعد انتخاب بوتين بأشهر قليلة سافر بيريزوفسكي إلى المملكة المتحدة حيث حصل على اللجوء السياسي هناك. ونعود إلى ليتفينينكو حيث عقد مؤتمرًا صحافيًا في أكتوبر عام 1998، ادّعى فيه أنه تلقى أوامرَ بقتل وخطف عدد من رجال الأعمال والسياسيين واتهم رؤساءه صراحة بأمره باغتيال بيريزوفسكي. وفي مارس عام 1999 قبض على السيد ليتفينينكو بتهمة إساءة استعمال السلطة وأطلق سراحه بعدها ولاحقته قضايا أخرى عقب ذلك ولكنه سافر إلى المملكة المتحدة التي منحته اللجوء السياسي عام 2001.

وقد عمل في الحرس الخاص بالسيد بيريزوفسكي بعد وصوله إلى المملكة المتحدة. في المملكة المتحدة، ألّف كتابًا أسماه “الاستجواب الذاتي المطلوب” وزعم في ذلك الكتاب أن الاستخبارات الروسية كانت وراء مقتل رئيس قناة “ORT” التلفزيونية عام 1990، الجريمة التي كانت تعد من أكثر جرائم القتل غموضًا. في عام 2002 اشترك ليتفينينكو في تأليف كتاب مع آخر أسموه “تفجير روسيا: الإرهاب من الداخل”، والذي اتهم فيه أجهزة الأمن الروسية بتدبير سلسلة من الهجمات القاتلة على المباني السكنية في موسكو.

وقد دفعت تلك الهجمات – التي وقعت في سبتمبر 1999 وقتل فيها 300 شخص – الرئيسَ بوتين لإعلان الحرب الثانية على جمهورية الشيشان. وقد نسبت الرواية الرسمية تلك الهجمات للمسلحين الشيشانيين. في مايو عام 2002، أدين ليتفينينكو غيابيًا بإساءة استعمال السلطة من قبل محكمة في موسكو وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات ونصف. وقد أدى إيواء المملكة المتحدة للعديد من المطلوبين الروس ومنحهم اللجوء السياسي إلى توتر العلاقات بين لندن وموسكو.

ويعتقد أن السيد ليتفينينكو عمل لصالح المخابرات البريطانية MI6 لعدة سنوات كما كان يعمل مع الاستخبارات الإسبانية للتحقيق بشأن المافيا الروسية قبل وقت قصير من وفاته. وقد بدأ السيد ليتفينينكو بإخبار أناس مهمين بما يعرفه بحكم عمله السابق بجهاز الاستخبارات الروسي وقد شكل تهديدًا ضد المسئولين الغربيين الذين عملوا لصالح السوفيت. وأخيرًا خرج ليتفينينكو على الملأ وقال أن المسئول عن قتل آنا بوليتكوفسكايا هو الرئيس الروسي بوتين. في نوفمبر 2006، أصيب ليتفينينكو بالإعياء الشديد وفي يوم 17 نوفمبر 2006، تم نقله إلى مستشفى كلية الجامعة في لندن بعد أن ساءت حالته. وبعدها بستة أيام توفي الرجل وتبين أن سبب الوفاة هو مادة البولونيوم – 210 السامة. وفي أواخر يناير عام 2007 كانت الشرطة البريطانية قد كشفت أن الجرعة القاتلة من المادة المشعة التي عثر عليها في أمعاء ليتفينينكو دست له في الشاى الذي احتساه في فندق «ملينيوم» بوسط العاصمة البريطانية «لندن»، وأن الشرطة وضعت الجاسوس الروسي السابق أنري لوكوفوي على لائحة الاتهام، لكنها لم تمتلك الأدلة الكافية.

البولونيوم معدن سام مشع، يصدر إشعاعات من نوع ألفا، وهي أشعة تؤدي الطاقة الناجمة عنها إلى تدمير جينات الخلايا وقتلها، أو تحويلها إلى خلايا سرطانية، وله العشرات من النظائر المشعة غير الثابتة، أكثرها توفرًا البولونيوم 210. الجرعة السامة الكافية لقتل أي إنسان بالبولونيوم هي واحد من مليون جزء من الجرام، أي ما يعادل جزءًا واحدًا من خمسمائة ألف جزء من حبة أسبرين.

تشخيص الإصابة بالبولونيوم صعب جدًا، ولا يمكن اكتشافه بأجهزة رصد الإشعاعات المعتادة، ولا تظهر الإصابة به إلا بظهور بعض الأعراض المرضية، مثل الإصابة بفقر الدم وضعف مناعة الجسم وتساقط الشعر واضطرابات الجهاز الهضمي. ولذلك فإن مادة البولونيوم تعتبر إحدى أنجع أنواع السم التي تستخدم في عمليات الاغتيال السري، وذلك لأن الإصابة بها لا يتم اكتشافها إلا بعد أسابيع، وربما بعد شهور.

الحادث الثالث هو تأكيد فريق التحقيق السويسري – في تقريره الذي أُعد بناءً على تكليف من شبكة الجزيرة الفضائية – على أن رفات رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات بها معدلات من مادة البولونيوم تفوق المعدلات المعتادة 18 مرة، وأن النتائج “تدعم باعتدال الفرضية القائلة أن وفاته كانت نتيجة لتسممه بالبولونيوم- 210”. وهنا نلاحظ أن المادة التي يعتقد أن يكون السيد عرفات قد تم تسميمه بها هي ذاتها التي تسمم بها السيد ليتفينينكو.

أشار تقرير سري للغاية نشرته بعض المواقع على الإنترنت إلى العلاقة الوطيدة التي تربط بين ألكسندر ليتفينينكو والملياردير اليهودي بيريزوفسكي الذي أشرنا إليه قبل ذلك والملياردير اليهودي ليونيد نيفزلين، والأخير معروف كأحد أكبر المساهمين في شركة النفط يوكوس والتي تم سجن مديرها اليهودي خودوركوفسكي في قضية اختلاس وتهرب من الضرائب وآخرين من إدارة تلك الشركة لكونهم مارسوا التصفية الجسدية لمنافسيهم. وقد انتقل نيفزلين إلى إسرائيل وحصل على جنسيتها وأصبح من المنتقدين للكرملين من مكانه الجديد.

ويشير التقرير إلى أن جميع الأسماء التي ذكرناها يدعمون القيادة الشيشانية في الخارج ويتحالفون معها ولكن على الصعيد الفلسطيني فالأمر يختلف بعض الشيء فقد أشار التقرير أن مادة البولونيوم التي سمم بها عرفات كانت بحوزة ليتفينينكو في لندن بتنسيق وتدبير من قبل الملياردير اليهودي ليونيد نيفزلين، كما أشار أيضًا إلى تورط بعض شخصيات الداخل الفلسطيني في تلك المؤامرة.

لم أستطع التأكد من صحة كل ما ورد بالتقرير وإن تضمن معلومات بالغة الخطورة تستدعي المزيد من البحث والتحليل. بيد أن ما استطعت التوصل إليه في هذا الشأن هو حوار أجراه موقع صحافة الشيشان مع السيد ليتفينينكو ذكر فيه أن الراحل ياسر عرفات – في رأيه – كان عميلاً للمخابرات الروسية. فضلاً عن ذلك، فقد أشار الكاتب الأردني الأستاذ ياسر الزعاترة في مقال نشر على موقع قناة الجزيرة 4/7/2012 إلى ما كشفه الصحفي الإسرائيلي المعروف (أوري دان)، وهو الإعلامي الأكثر قربًا من شارون، وأورده في كتابه “أسرار شارون” الذي صدر عام 2007.

وفيه يقول (دان) إن شارون قد تحلل في 14 أبريل 2004، من وعده لبوش بعدم التعرض لعرفات، وفي اللقاء الذي عقد بينهما في البيت الأبيض، قال شارون لبوش إنه لا يعد نفسه ملزمًا بالوعد الذي منحه له أثناء لقائهما الأول بعد فوزه في الانتخابات، وهنا رد بوش قائلاً: “ربما من الأفضل إبقاء مصير عرفات بأيدي قوة عليا، بأيدي الله”، فأجاب شارون “ربما يجب أحيانًا مساعدة الله”. وعندما سكت بوش اعتبر شارون أنه “تحرر من عبء ثقيل”، والعبارة الأخيرة للصحفي الإسرائيلي. فضلاً عما تقدم، فإن التراشق الإعلامي الذي حدث بين بعض الشخصيات الفاعلة في المشهد الفلسطيني بدا مفجعًا. ولن أقوم بتناوله أو التعليق عليه لعدة اعتبارات. ولكن كما أخفيت التحاليل الخاصة بالسيدة/ بوليتكوفسكايا “بأوامر علوية” فإن فرنسا مازالت تنكر تسمم عرفات.

ولي في النهاية عدة تعليقات على كل ما ذكر هنا من مؤامرات:

أولها: أن الإعلام سوف يظل دائمًا ينقل صورة تعبر عن إرادة الفئة المسيطرة على مقاليد الأمور والمتحكمة بالمال أو السلطان أو بهما معًا. وستعرض الأحداث دائمًا بشكل مُجتزَأ وستحتاج إلى جهد مضاعف من البحث والتحقيق للوصول إلى الحقيقة، وفي كثير من الأحيان ستفشل في معرفتها. وعلى الشرفاء دائمًا تقديم تضحيات مذهلة لمحاولة إيصال الجوانب التي يخفيها الطغاة.

ثانيًا: هناك نسبة من أولئك الذين يظهرون في صورة المناضلين ويعارضون الأنظمة معارضة مريرة، بل وربما يقتلون بسبب تلك المواجهة مع السلطة، تكون معارضتهم للسلطة ليست من أجل حرصهم على إقامة العدل في البلاد ورفع المظالم ولا من أجل تأثرهم بالقضية التي يناصرونها، بل من أجل خروجهم من دائرة التأثير أو تأثر مصالحهم الاقتصادية أو نفوذهم بفعل السلطة الحاكمة، ولا يجدون سبيلاً غير معارضة السلطة والتآمر عليها لنيل مآربهم الشخصية وربما استخدموا في ذلك أنصار القضية العادلة بل وتاجروا بقضيتهم.

والأبعد من ذلك هو احتمال معرفة الفئة المناضلة الحقة بمآرب مناصريهم ويقبلون بدعمهم مرحليًا لعدم وجود خيار آخر أمامهم أو لمعرفتهم قواعد اللعبة وقبولهم بها. ومشكلة هؤلاء المناضلين المزيفين أنهم يلبسون الحق بالباطل ويخلطون الأمور على المحلل اختلاطًا شديدًا وتستغل السلطة الفاسدة ذلك الأمر لصالحها إلى أبعد مدى فتبدأ وسائل الإعلام بفضح المصالح الشخصية لأولئك المناضلين المزيفين حتى يفقد الجمهور ثقته بكل المناضلين والمعارضين ويُسقِط ما يفعله البعض على الكل. وأمثال هؤلاء يضرون ضررًا بالغًا بالقضية العادلة. وشتان بين آنا بوليتكوفسكايا وبوريس بيريزوفسكي.

ثالثًا: إن القائم على تنفيذ الحروب القذرة لا يراها شرًا مطلقًا بل ينظر إليها باعتبارها من تكاليف الحكم التي لا بد من القيام بها للحفاظ على الدولة ضد التهديدات المختلفة. وربما قام بتلك الأعمال حفاظًا على شخصه ونظامه وليس حماية للدولة، ولكن الديكتاتور دائمًا ما يرى أن الحفاظ على شخصه ونظامه حفاظًا على الدولة. إن الزعيم يولد وهو يعرف أن لديه قدرات مختلفة يشعر بتفوقه وتميزه ويرى أنه أحق الناس بالقيادة والزعامة، والفاسد من هؤلاء يسعى للزعامة بأي سبيل ويحقق مآربه بأي وسيلة. وعندما يصل إلى السلطة يتداخل الشخصي مع العام تداخلاً عصيًا على التفكيك. فالديكتاتور يرى أنه أحق الناس بقيادة البلاد والأقدر على حمايتها وبالتالي تكون حماية شخصه ونظامه حماية للدولة ذاتها. وبوتين من هؤلاء الرجال الذين يعرفون قدراتهم تمامًا ولا يقبلون أن يكون نهوض الدولة على يد غيرهم.

رابعًا: إن الحرب على الشيشان (التي صارت في طي النسيان) ليست حربًا على الموحدين وليست معركة عقائدية ضد الإسلام وأهله كما يحلو للبعض أن يصورها بهذا الشكل، ولكنها حرب ضد حركات انفصالية – من وجهة نظر الدولة – لا بد من إخمادها للحفاظ على تماسك الدولة ووجودها. كما أن ليتفينينكو لم يقتل بسبب اعتناقه الإسلام قبل موته أو بسبب أنه أوصى بأن يدفن حسب الشعائر الإسلامية وأظن أن ما ذكرناه هنا كافٍ لإثبات عكس ذلك. إن التحليل الخاطئ للأحداث يؤدي إلى ردود أفعال خاطئة في التعامل معها والقاعدة الفقهية تقول أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فالتصور الخاطئ يؤدي إلى أحكام خاطئة. ومن أراد إقامة العدل حقًا فعليه أن يخرج من التحيزات المسبقة والصور النمطية التي يستحضرها من تاريخ مشرف استغرقه ولكنه أسقطه على الواقع إسقاطًا خاطئًا.

والقرآن الكريم حينما أورد القصة قال “لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌۭ لِّأُو۟لِى ٱلْأَلْبَـٰبِ”، فالعبرة هي الغاية من تاريخ الأمم السابقة فإن استغرقتنا أحداث التاريخ وألهتنا عن معرفة العبرة نكون كمن أكل قشرة الفستق ورمى بقلبها والعبرة في النهاية يستخلصها أولو الألباب.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد