تعاني فئات كثيرة من المجتمع المصري أنواعًا من التمييز نمارسها ضد بعضنا البعض بشكل يومي، هناك أنواع من التمييز يعمل الكثير علي علاجها لشهرتها، وذلك من خلال تحديد أسبابها وبحث سبل علاجها بالوسائل غير التقليدية، منها التمييز المبني على الدين والمستوى الاجتماعي كمثال، ولا شك أن التمييز هو أحد أخطر الأسلحة التي تُهدم بها المجتمعات وتُحطم بها نفسيات البشر، وتتسبب في بعض الأحيان في أنواع من الصراع والتراشق اللفظي، بل أحيانًا يصل الأمر إلى حد الاقتتال.
لن أتحدث خلال الكلمات القادمة عن أحد أنواع التمييز المشهورة من حيث التناول والرغبة في علاجها، بل سأتحدث عن أحد أنواع التمييز الممارسة ضد ٢ مليون شاب من شباب مصر، من المفترض أن يكونوا نواة للابتكار وتقدم الصناعة المصرية، هؤلاء هم خريجو مدارس التعليم الفني والتدريب المهني، وقبل أن ابدأ في الحديث عن أنواع وأشكال التمييز الممارسة ضدهم في المجتمع المصري، سأذكر عدد من الأرقام والاحصائيات تمكن القارئ من معرفة حجم المصيبة، والجدير بالذكر أن كل هذه الأرقام التي سأذكرها هي إحصاءات وزارة التربية والتعليم بالتعاون مع وزارة التجارة والصناعة.
فالتعليم الفني في مصر ينقسم إلى أربعة أنواع صناعي وتجاري وزراعي وفندقي، وتعداد هؤلاء الطلاب جميعًا في الأربعة أنواع ٢ مليون طالب بواقع ٦٠٠ ألف خريج سنويًا، يقوم على تعليمهم ١٠٠ ألف معلم معظمهم خريجي نفس المدارس، يمثل القطاع الصناعي منه ٤٨٪، والقطاع التجاري ٣٧٪، والقطاع الزراعي ١٢٪، والقطاعي الفندقي ٣٪، مع العلم أن التعليم الفني يمثل ٥٣٪ من تعليم المرحلة الثانوية، وتمثل الثانوية العامة ٤٧٪، لك أن تتخيل بعد ذكر هذه الإحصاءات والأرقام حجم الكارثة التي نحن بصدد الحديث عنها، فالتعليم الفني في مصر وصمة عار في جبين الشخص المنتسب إليه، وفي جبين الأسرة التي ينتمي إليها، وهذا هو الواقع شئنا أم أبينا.
فالدولة بكل مفرداتها هي أحد أسباب ذلك بدايةً من التفرقة في المجموع الذي يؤهلك للمرحلة ما بعد الاعدادية حيث يتجه أصحاب المجاميع المتدنية إلى التعليم الفني ويُحرموا من التعليم الثانوي وكأن التعليم الفني عقاب على تدني درجاتك في المرحلة الاعدادية، مرورًا بالميزانيات المتدنية والاهتمام في تناول أخبار التعليم الفني والاحتفاء الشديد باعلان نتائج الثانوية العامة وأوائلها وإهمال نتائج التعليم الفني وأوائله وانتهاءًا بأدائه للخدمة العسكرية لمدة عامين وكأن ذلك عقابًا له.
والدراما بأنواعها التي ترسخ في الذهن صورة عامة فيها من التنميط والتعميم الكثير من الظلم، حيث طالب التعليم الفني في الدراما هو إما سارق أو بلطجي أو متحرش أو تاجر مخدرات أو نحو ذلك والأمثلة في الدراما كثيرة.
والمجتمع ذاته ووصمة العار التي تلحق كل شاب خريج من التعليم الفني وأنه حاصل على دبلوم صناعة أو تجارة حينما يريد التقدم لفتاة ربما حصلت على شهادة جامعية أو نحو ذلك، وبالرغم من نضج الشاب عقليًا وعلميًا، وربما تفوقه في عمله وحسن أخلاقه، إلا أنه يواجه بالرفض حينما يعلم الأهل أنه طالب تعليم فني وخريج صنايع أو تجارة أو زراعة وغيرها من أنواع التمميز في المجتمع ضد هذه الفئة.
هذا وتوجد أنواع أخري كثيرة من التمييز لا تُحصى في المجتمع تجاه التعليم الفني وخرجيه، تجاه ٢ مليون شاب، تجاه ٦٠٠ ألف خريج سنويًا! تجاه مجموعة من الشباب من المفترض أن يكون منهم المخترع والمبتكر ورائد الأعمال، من المفترض أن يكونوا هم عصب الصناعة المصرية وسر تقدمها، من المفترض أن يكونوا هم نواة التقدم في الدولة المصرية.
وإنه من المؤسف والمحزن للغاية أن يتناول صانعو الصورة الذهنية لدى المجتمع من الصحافيين والإعلاميين هذا الأمر بشكل آخر من أشكال التمييز والصورة المغلوطة، حيث يقول البعض بالفعل أغلبهم من المجرمين والمتحرشين والبلطجية، وهذا نوع من التعميم الظالم، ولا شك أن قضية (هل يصنع الإعلام الواقع أم هو انعكاس له؟) قضية جدلية كبيرة، ولكن بعيدًا عن ذلك، فالكل متفق أن الإعلام يؤثر بشكل كبير في تعزيز صورة سلبية أو إيجابية معينة ويمكنه علاج الصورة السلبية وتصحيحها.
لذا فعلى كل مفردات ومكونات المجتمع إذا ما أرادت إصلاحًا في ملف الصناعة أن يكون من اهتمامتها تحسين الصورة الذهنية عن تلك الفئة التي نؤّمل أن تكون نواة ذلك التحسن في هذا الملف، وتقديم أشكال مختلفة من الدعم لهم حتي يصبحوا قادرين على الابتكار من خلال العمل في ظروف نفسية وبيئات عملية وتعليمية مناسبة.
ولابد من ذكر الأشياء التي تمثل بصيص نور لتحصل على الدعم المناسب لها وتحقق المرجو منها، وأعني هنا الحديث عن ”برنامج دعم إصلاح التعليم الفني والتدريب المهني بمصر” والمدعوم من الحكومة المصرية والاتحاد الأوروبي، حيث يسعى البرنامج بمكوناته المختلفة إلى تحسين كل ما يتعلق بملف التعليم الفني والتدريب المهني في مصر بدايةً من الصورة الذهنية، مرورًا بحجم الدعم المقدم للطالب أثناء دراسته انتهاءً بانتقاله لسوق العمل وعملية تمكينه.
لذا لابد من دعم مثل هذه البرامج ومساعدتها على كافة المستويات حتى تحقق المرجو منها إذا ما أردنا تقدمًا في هذا الملف، والذي من شأنه تحسين أوضاع مصر الاقتصادية بشكل كبير؛ مما يعود بالخير على المواطنين الكادحين الذين يئنون من وطأة غلاء الأسعار وانخفاض مستوى المعيشة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست