يعيش العراق أضخم تحولاته في تاريخه الحديث منذ ١٩٢١؛ فالأحزاب الدينية الحاكمة التي أقرها الأمريكان في العراق بعد سقوط حكومة حزب البعث ٢٠٠٣، والتي قسمت العراق إلى هويات جزئية تابعة لها وصلت إلى أوج قوتها في عام ٢٠٠٦ وهزم الحراك العلماني والليبرالي فيها أمام طوفان “القومي” و”الطائفي”، وأمام هجمة ثقافية وسياسية وقمعية لترسيخ مفهوم “الهوية” الجديدة بدلا من الهويات الوطنيّة التي كانت تقاوم موجات الطائفية والقومية منذ سقوط حكم البعث .

ومنذ ذلك الحين تم ترسيخ مفهوم الدولة “التوافقية” القائمة على أساس الهوية والمحاصصة“الطائفية والقومية” وتقديس “الرموز الطائفيّة والقومية ” على حساب الوطنية؛ وبالمقابل تأسست الفصائل الإسلامية المسلحة خارج قانون الدولة التوافقية في مجملها كحراس للهويات الدينية ولمواجهة تحدي الحراك “اللاديني”، والضغط على هويات وحقوق الأقليات التي أضعفها “التغيير الجديد”، وقد نجحت تلك الكيانات بترسيخ هوياتها الجزئية واقعيا، وعملت على الحفاظ عليها ضمن حدود الجغرافية الطائفية أو القومية، وداخل الدولة التوافقية وإن لم تعترف بها نظريا، وبالأخص بعد قبول غالبية الشعب لتلك الهوية الجديدة، ومع ابتعاد ذاكرة العراقيّين عن ذاكرة دولة المواطن وترسيخ دولة “الوطن”، وفقدان الوعي الجمعي وتحوله لوعي “فردي” وإحلال الوعي الطائفي أو القومي الجامع بدلا منه، كل ذلك أجبر الشعب العراقي على القبول بالأمر الواقع كما هي.

في ٢٠٠٦-٢٠٠٨ تصاعد القتل بين الهويات الجزئية الطائفية أمام الدولة التوافقية بعد انكسارها، لم تستطع الدول الضعيفة على احتواء تلك الفتنة الطائفية داخل كيان الوطن أو توجيهها لمواجهة لإرهاب الحقيقي، وبذلك تم توجيه كل تلك الطاقة الطائفية والتحكم بها من قبل الأحزاب الحاكمة، وكل حسب هويته الجديدة، وتصاعدت في تلك الفترة ، وما تلاها من “التغيير الديموجرافي” ، التجزيئية الضيقة ، وتم تهجير عشرات الآلاف من العراقيين على أساس الطائفة، وإلى اليوم لا تزال الطائفية تهدد صيغة الدولة التوافقية حتى برغم من صولات الحكومة والأمريكان عام ٢٠٠٩ على التمرد الطائفي، إلا أن ذلك في مجمله لم يدعم صيغة الدولة التوافقية وأخرج من الجعبة الطائفية صيغا توجب حماية هويتها ورموزها وتحرم الخروج على قانون الطائفة وتؤكد على مفاسده، وهي في الحقيقة تمنح الشرعية للحكم الطائفي المطلق للسلطة القائمة.

 

ومع نهاية عام ٢٠١٢، انفجر الوضع الطائفي في المناطق الغربية والشمالية من العراق، وأنتج هذا الانفجار صراعا جديدا بين الهوية الشيعية الحاكمة والهوية السنية المتعايشة مع الجماعات المسلحة وفي صيغة أكثر وضوحا كان الصراع بين الحكومة في بغداد وذروة التطرّف السني داعش، وأصبحت الدولة التوافقية كلها مهددة بالنسف والانفجار وأصبحت النقاشات في كل أروقة الأحزاب السياسة تقريبا تتحدث عن مستقبل سايكس بيكو من جديد أساسه الهويات الطائفية والقومية؛ مع مشروع أمريكي لإعادة تعريف الهويات والجغرافيا والأعراق من جديد في العراق وربما سورية، وهو مشروع تقسيم يرى أن سايكس بيكو قد انهار ولا يمكن أن يرجع العراق مثلما كان عليه قبل أحداث سقوط نينوى في حزيران ٢٠١٤.

وعليه، ومع دخول الدولة التوافقية في مراحل نهايتها الأخيرة سوف تدخل في حرب مع حرس الهوايات الطائفية تحت مسمى “الحرب على الإرهاب والخارجين على القانون”، وقرب حدوث تقسيم العراق يضع الأحزاب الطائفية في كفة مقابل القوميين، وبدء مواجهة من نوع جديد أيضا هناك، وتحول صيغ “محاربة الإرهاب” لصيغ حروب داخلية والحشد على أساس عناوين الإرهاب ومكافحة الخروج على القانون، وبالتالي نكون أمام واقع جديد يتشكل في مفهوم الطائفي والقومي للدولة نفسها، واستعادة صيغة التأسيس مرة أخرى عبر إعلان الهوية الوطنية الجامعة في مقابل الهويات الجزئية المستبدّة.

كل هذه الهويات كان الوطن صيغة جامعة لها منذ ١٩٢١ وأيقظتها ديمقراطية أمريكا عام ٢٠٠٣، ومع حسم المشروع الأمريكي مستقبل الدولة الوطنية في العراق وإعلان البدء في تقسيمه.

لابد أن يستعد العراقيون للمفاجآت، ويتجاوزوا فكرة الدولة التوافقية للأبد؛ فهذه الفكرة لم يعد يعول عليها الشعب العراقي، فمع الدولة التوافقية لا مستقبل سياسي للعراق ولا اقتصادي ولا عسكري، وعلى العراقيين التبشير بصيغتهم الوطنية الجامعة التي كانت موجودة على مر تاريخهم الحديث .

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد