كم منا بات حزينًا باكيًا؟ وكم منا عاش سنوات طويلة من حياته في نكد متواصل لأسباب كثيرة سواء أكانت مادية أم معنوية؟ وكم مرة سألك الناس عن حالك، فأجبت أنك بخير رغم أن قلبك ينزف دمًا ودموعا؟ وهي ربما الحالة التي أقع فيها أنا وأنت وسرعان ما نعود إلى صوابنا ونحمد الله على حياتنا.
ولكن كم من حالات أخرى كثيرة وصل بها الأمر إلى الانتحار وفي الغالب تكون الأسباب نفسية بحته، وفي هذا الشأن أذكر داليدا، الفنانة والمطربة التي ذاع صيتها عالميًا وحازت من المال والشهرة ما يتمناه غيرها وكانت آخر كلماتها: «الحياة لا تُحتَمل.. سامحوني»، حيث انتحرت بجرعة حبوب مُنوِّمة عام 1987، وذلك بعد رحلة من النجاح والشهرة والنجومية فى عالم الغناء على امتداد العالم.
والممثل الكوميدي العالمي روبن ويليامز، الذي وُجِدَ مشنوقًا فى منزله فى ولاية “كاليفورنيا” الأمريكية بعد رحلة طويلة من النجومية، وغيرها من الحالات التي قررت انتهاك حرمة حياتها بسبب ضغوط نفسية شديدة رغم أنهم كانوا يعيشوا حياة غاية في الثراء والغنى.
هؤلاء وغيرهم سيطرت عليهم فكرة الانتحار أو رغبة الموت بمعنى أصح، تلك الفكرة التي تعد من أبشع الأفكار التي ابتدعها الإنسان كي يهرب من حياته التي هي ليست أصلاً ملكه ليتحكم فيها كما يريد، فليس الموت قرار صاحبه إنما هو قضاء الله وقدره، فكيف لك أيها الإنسان أن تأخذ ما هو ملك الله وأن تقرر موتك في غير ميعادك.
وهنا لن أحاول تحليل مرض الاكتئاب علميًا لأني لست من المتخصصين في هذا الشأن وحتى ما قرأته فهو شيء ضحل جدًا، إنما مقصدي أن أحلل ذلك المرض نفسيًا كما أفهمه بفهمي البسيط.
«تعددت الأسباب، والموت واحد» هكذا هو مرض الاكتئاب تتعدد وتختلف أسبابه من شخص لآخر ولكن نتيجته واحدة لا تختلف عن حياة حزينة مليئة بكل صعب، حقـًا هي حياة صعبة حيث تشعر فيها أنك تجري أميالاً طويلة وسط الصحراء كي تصل إلى الماء وترتوي، وفي النهاية لا تجد سوى السراب يحيط بك من كل حدبٍ وصوب، ويظن بعضهم أن هذا السراب لا يُرى لأن وجوده عدم، ولكن هذا ليس صحيحًا أبدًا؛ فالسراب مثله مثل الظلام لا يشعر به إلا من حُرم النور، وهي مشكلة الكفيف الذي يرى الظلام كل لحظة، فليست مشكلته أنه حُرم النور بقدر ما يعاني من رؤية شبح الظلام صباحًا ومساءً.
ولعل الاكتئاب في صعوبته يشبه كثيرًا الصحراء الخاوية ليس بها أنيس أو رفيق، وقد تشعر بذلك رغم وجود مئات الأشخاص حولك، وبالرغم من أن حياتك بها كثير من النعم، ولكن نظرتك وشعورك الداخلي يُضفي عليك حالة غريبة من الحزن فتبكي لأتفه الأسباب وتضحك فقط كي ترضي من حولك، فإذا أصابتك هذه الحالة من الاكتئاب، استعن بالله، فهو حسبك.
ليس المصابون بذاك المرض مجانين أو أشخاص شاذين عن الحياة الطبيعية، ولكنهم يومًا كانوا يعيشون معنا ومثلنا حياة طبيعية جدًا، الفرق بيننا وبينهم أنهم أضعف منا قلبًا ونفسًا، فربما نتحمل أشياء لا تتحملها قلوبهم حتى وإن كانت بسيطة، فلا يجب أبدًا أن نستهين بها أو نحقرها، وبشكل عام فالاكتئاب مرض متعدد المراحل، وهناك كثير من الناس توغلوا في هذا المرض حتى وصلوا إلى أصعب حالاته، وبعضهم ما زال في البداية يعاني من اكتئاب متقطع نتيجة مشاكل حياتية عادية، وهو ما يسهل علاجه ورجوعه إلى طبيعته.
لكن الخطورة تكمن في أمرين، أولاً أن كثيرًا منا يُصاب بهذا المرض ولا يعترف بمشكلته النفسية، ربما خوفـًا من كلام الناس أو هروبًا من الحقيقة وهو ما يصعب عليه العلاج جدًا خاصة وأنه ليس مستعدًا للاعتراف أصلاً بالمشكلة، أما الخطورة الثانية فهي تتعلق بطبيعة مرض الاكتئاب ذاته فهو مرض نفسي بحت لا يمكن القضاء عليه بكبسول أو حقنة، فلم نسمع يومًا عن دواء يقلل دموع الناس أو مصل يخفف الآلام القلبية والنفسية، فإن ألم القلب حقـًا هو أشد الآلام وأصعبها، والمرض النفسي هو مرض أشبه بالسرطان يفتك النفس ويدمرها، فتصبح النفس كالجسم الهزيل الضعيف الذي لا يقوى على شيء.
لذا فالعلاج يعتمد إلى حد كبير على الإرادة الذاتية للشخص في التعافي والعودة إلى حياة طبيعية سعيدة، ولكن من أين تأتي هذه الارادة لشخص هزُلت قواه النفسية ويأس الحياة إلى درجة حب الموت!
هنا تقع المسئولية كبيرة على المقربين من المريض من أهله وأصدقائه، فهم علاجه وإرادته التي لا يملك سواها، ولذا يجب عليهم أن يحيطوه بجو من الحب والحنان من دون أن يتعاملوا معه على أنه مريض يستحق الشفقة لأن هذا قد يتسبب في نتائج عكسية.
«كن جميلاً، ترى الوجود جميلاً» هذه الحكمة من أهم المقويات لمرض مثل مرض الاكتئاب، لأن الاكتئاب يصيب من لديه استعداد لذلك ليس استعدادًا بمعنى رغبة في المرض، وإنما بمعنى ضعف نفسي أو نظرة متشائمة للعالم، وهذه النظرة هي أخطر ما يكون لأن المتشائم يرى كل شيء حوله قبيحًا حتى وإن كان لديه كل مباهج الدنيا فسيظل كارهًا لحياته وغير راض عنها؛ فالرضا والتفاؤل من أهم معايير العلاج النفسي كي تكن متصالحًا مع نفسك الداخلية ومع عالمك الخارجي، فلترض بما قسمه الله لك وتحب ما أنت فيه ولا مانع أبدًا من أن تطمح في الأفضل على أساس من العمل والاجتهاد.
فلا تدع أيامك وحياتك تمر وسط أمواج عاتية من حزن ودموع لا تنتهي، فيفاجئك العمر أنه انتهى وأنك لم تسعد يومًا، لك في الحياة حقوق كثيرة فلتقتنص أهمها وأبسطها إلا وهي السعادة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
اكتئاب, الاكتئاب, انتحار, حزن, داليدا, دموع, روبن ويليامز, صعوبة الحياة, مرض الاكتئاب, مرض نفسي, نفسي, نفسية