“لا ترحل.. لا تُهاجر.. لا تتنازل.. بقاؤك يؤنسنا، لا تُفقد مُلاك الإمبراطورية لذة النظر إليك وأنت هالع، ما أجمل رؤيتك أسير بوابة حديدية وجنود القيصر يَسقونك الغاز سُقيًا فتخمد أنفاسك اللعينة، ما أروع مشاهدة جسدك الحقير يتهشم وأنت ملقىً من أعلى جُدران أرض الساحرة المستديرة.
لم تُدرك أنت بعد لذة اقتلاع الرصاص قلوبكم وعقولكم السافلة في شتى الميادين, إن أنتم ذهبتم فمن أين لنا بفئران أخرى تقبع داخل مصيدة التجارب؟ مَن للباشا قناص العيون؟ مَن لكشوف العذرية؟ مَن لإشباع غريزة الاغتصاب وانتهاك الأعراض؟ مَن يمنحنا آلاف الحقراء نستلذ بسجنهم وننتشي بحفلات تعذيبهم؟ مَن يشغر تلك السلخانات التي أُنشئت لكم خصيصًا؟ بمَن تكتظ المقاهي إن رحلتم؟
مَن سينادي بالكلمات القذرة المُسماة بالحرية والكرامة والعدالة فيُقنن بطشنا وسلطويتنا تحت مظلة مكافحة الإرهاب والفوضى وحماية الأمن القومي؟ لا تُغادر الآن, ضريبة تمردكم فوق الأسياد لم يكتمل سدادها, وشهية عِلية القوم لم تستكفِ بعد من الإطلال على أُنوفكم مُمرغة التراب, أرأيتم مدى جليل قَدرِكم وعظيم خَدماتكم، سَادية حاشية القيصر يروق لها ما سلف، لذا لا ترحل.. لا تٌهاجر.. لا تتنازل”.
دائرة الانتماء تحوي مجموعة من العناصر تتفاوت أولوياتها بين الأفراد, أبرز الحائمين صوب المركز مُنثرون بشكل عشوائي غير مُرتب, العائلة أو القبيلة, الوطن, العقيدة الدينية، الطائفة, العِرق, الأمة بمفهومها الشامل, بعضها يحظى بتقديس مهول فيقترن بمركز الدائرة, والبعض الآخر مُهمل ربما يصل الحال به ترك حيز الدائرة بالكلية.
لماذا يدين الفرد بالولاء لعائلته؟ لأنها تصنع المناخ المُساعد للانتقال بدءًا من مرحلة النمو وحتى الرُشد, كما أنها تُشبع الاحتياجات الفسيولوجية والنفسية والمادية والاجتماعية لديه, لماذا يدين بالولاء لدينه؟ لأنه روح الوجود الإنساني, عقليًا يُجيبه على ألغاز الوجود, ونفسيًا هو نداء الفطرة فنجد القرآن الكريم يقول: “فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون”, كما أن مجد الدين وعلوه يراه الفرد غاية صنعها الله لأجله, لماذا يدين بالولاء لوطنه؟ لأنه ينعم بالحرية والكرامة والعدالة على أرضه, يمنحه تعليمًا مٌميزًا ورعاية صحية جيدة وعملاً مٌلائمًا.
ورد هذا الحديث أثناء مُسامرة مع صديق لا أعلم من أي البلاد يكون – أو أعلم -، عند نقطة الوطن نكّس هامته متمتمًا بأسىً شديد, واقع الأمر جميع ما ذُكر عن الوطن غير حقيقي ولم أره بموطني, ثم أسند رأسه للخلف واستطرد قائلاً, قُبيل سنوات مضت, قمنا بثورة قدمنا خلالها مئات وربما آلاف شبابنا المُخلص, تمردنا على الفساد والقهر والجهل والفقر, وسريعًا ما ارتطمت إرادتنا بميول مُغايرة للمؤسسة ذات القُدسية الأعلى في البلاد, توهمنا بداية بدعمهم ومُساندتهم لتطلعاتنا نحو التغير, لكن أحلام المساكين لا تدوم طويلاً, إبقاء دولتنا أسيرة حالتها الرثة البائسة صار خَيارهم.
ووُضعت خاتمة طموح زهور بلادي بتنصيب القيصر الجديد القديم, سحق الثورة ومبادئها ومن قبلها نحن.. أكمل بنبرة تختنق: صكوك الوطنية أصبحت ملكَ السلطة, جَذّر إعلام الإمبراطورية قاعدة نصها أن “النظام هو الوطن”, إذا ما عارضت سياسة الحكم فأنت تُعارض الوطن لا السلطة, وعندها تُكال إليك الجرائم, تلك التهم المُثقلة بكلمات سمينة كالإرهاب وقلب نظام الحكم وتهديد الأمن القومي!
لم يَدعنا الوطن (النظام هو الوطن) نهذي بأحلامنا, ولا مُجرد الاستمتاع بمباريات الكرة أضحى مشروعًا, الموت في الجامعات والملاعب والميادين ووسائل النقل يحظى بكرم الاستقبال, طلقنا ما بُحت به حناجرنا طيلة سنوات ثورتنا المَقبورة, لم يتحسن الحال بل مضى إلى الأسوأ, دقق النظر في تقرير التنافسية العالمية تجد دولتنا تحتل المركز 141 من بين 144 دولة في جودة التعليم الأساسي, وجودة إدارة التعليم العالي المرتبة الأخيرة, وِفق تقرير الشفافية الدولية, نحتل المركز 94 فسادًا من بين 175 دولة, ولن أتطرق للبطالة والصحة والخدمات, جُداريات المقاهي والمستشفيات والطرقات خير مُحدث, سألت مستنكرًا أين بقية البشر أمام تلك الأهوال؟ بابتسامة ساخرة آسفة قال: هم يمجدون الوطن الذي ارتضته السلطة لهم, فإذا ما زلزلت يد أحد جنود القيصر قفا المتيم بالخداع, انهار الوطن وزُفت إليه اللعنات.. خضبت الدموع عينيه وأكمل.
اجتهد شباب بلادي لا ريب, عانقنا الرصاص وجالسنا السجون, بذلنا الكثير لخلق واقع مُشرق يُعزز انتماءنا لوطننا, وقُوبل بذلنا بالرفض, الدولة (إن شئت فقل الوطن كما يُريدون) ضاقت بنا ذرعًا, جميع أحلامنا غير مُرحب بها, فلا تعجب إن أخبرتك أن كلاً منا يتطوق للنجاة من الخدمة العسكرية هربًا من معارك لا تخص الوطن الحقيقي من قريب أو بعيد وإنجازًا للسير تجاه طريق المطار.
أَسْهَمَ عاليًا نحو السماء وقال: هل هناك ما هو أعتى من الترابط والانتماء القائم بين أفراد الأسرة الواحدة؟ خلال شهر رمضان المُنصرف أذاع برنامج إعلامي قصصًا تعج بالخلافات والضغائن بين أعضاء الجسد الواحد ممثلاً في العائلة الواحدة, من بينها ابن رفض إلباس ثوب العفو لأبيه, تخلّى الوالد عنه منذ صغره وتركه للدهر يفعل به الأفاعيل, ظل الانقطاع مُزمنًا طيلة سنوات وسنوات, غفر الابن لأبيه بعد مشقة بالغة, خطيئة الوالد تقصير هشش جلالة انتماء ولده إليه, وما يفعل الوطن بشبابه يتخطى حدود ذلك مرات ومرات.
سنرحل حتى يحين موعدٌ يُدرك الوطن ما اقترفت يداه ويعي أننا أبناؤه, عندها سنصفح بل ونحتضن الأرض والماء والهواء, سنبكي وقتها بين أذرع الوطن الحق, لا الوطن المُقنع بسلطة أو أشخاص, أما تلك الأصوات القادمة من نُخبِهم وإعلامييهم مُدعية شغفها بنا وترفض الرحيل, فإنها تٌخفي جحيم حنجرة الجلاد قائلاً: “لا ترحل.. لا تُهاجر.. لا تتنازل.. بقاؤك يؤنسنا, لا تُفقد مُلاك الإمبراطورية لذة النظر إليك وأنت هالع”.
“دعوات الرحيل والهجرة تزايدت مؤخرًا بين الشباب داخل إحدى الدول العربية, لم يقف الأمر عند ذلك, بل وصل حد الدعوة إلى التنازل عن جنسية الدولة القائمين بها”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست