حب النفس منه انبعثت كل منجزات هذا الكون الحضارية بخاصة الغربية الحديثة، وعنه جاءت كل الشرور، و«ناب» حضارتنا من الأمر نصيبها.

لمّا خلق الله الخلق، وقدر الوجود، على النحو والطريق الذي ارتضاه العدل المطلق، والرحمة التي لا تعلوها رحمة، قدر أن يهب بني البشر إلى الأرض، ولما كان أبوهم مقر إقامته الأول الجنة، لم يحدثه تعالى ولم يوح إليه بشيء يخص الموت أو الفناء، إلا أن عدوه الأزلي وسوس إليه، فجعله يأكل من شجر الجنة ليرى عورته، وينفذ أمر الله فيه بالهبوط إلى الأرض.

أكثر ما في هذه الحياة تعقيدًا، وأشقى متاهة يمكن أن تزوغ البشرية فيها متاهة النفس البشرية، تريد الخير كله دون أن تبذل مقابلًا مناسبًا، ومسالكها ودروبها يحتار فيها عقل فلاسفة الكون لو جمع في حيز واحد، وهيهات أن يكون.

«كانت» قبل أن يوجد الشيطان، وراودها الأخير على حساب سلامها فألزمها الهلاك، ولكل حضارة، ولكم تطول مسيرة الآسف، ولكل حضارة كما «أُمة» كما «فرد» و«جماعة» مدخل للنفس منه تشتعل الحرائق.

عن حذيفة بن اليمان قال الحبيب، صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» متفق عليه.

ومَنْ ذا الذي فهم الفتن على أنها تعرض على قلوب الخلق دون الجماعات والدول؛ بل الأمم؟!

كنتُ، قديمًا، أقف أمام آية في سورة يس، متعجبًا، فلما طال بي العهد، حتى حين، علمتُ لها تفسيرًا من حروف بسيطة ملؤوها التأمل: «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)».

فقه الأوليات أهم أمور الوجود، وجد مع العقل والمفترض أن يُلازمه، فليس كل صواب وصحيح من الأقوال أو الأفعال يفعل في أي وقت، بل إن الصواب قد يتأخر أو يتقدم لكي تأخذ بنفس مَنْ أمامك إليك، وليس من البشرية في شيء أن تعجل عليه بالتصحيح في وقت هو غير مهيأ إليه، ولا أن تصمت عن خطئه حتى يهلك أمامك، ولكن البشر يتعجلون، ومن عجب أنهم حيال المرسلين من رب الوجود، يتمادون في العناد، مع مراعاة الأفاضل الأكرام الأخيرين الأخذ بمجامع القلوب والنفوس جيدًا.

ثم تأتي الأيام بالعجائب لتعلمنا أن الحسرة على العباد ولم يقل رب العزة «الناس» أو «البشر»، وهو تعالى أدرى بمراده.

تتمادى دائرة الشر في الدوران على أناس أحببناهم، لكن ما تعلموا من جريان السنن الكونية، ولا دروس التدرج في الوجود، وراحوا دون نهج أو تأصيل يخطون فوق المنطق والعقل، وتؤكد «النفس» منهم، التي نفذت أمر الله فتسببت في هبوط سيدنا آدم إلى الأرض، وتؤكد نفوسهم أنهم على الصواب، فيما يسوقون أنفسهم ومقدراتهم، بل بلادهم نحو الهلاك، إلا قليلًا.. نسأل الله الرحمة.

وحين ترى الجماعة تفعل، وحجرًا من «توازنات»، في المقابل، كان «مستكينًا» صادًا لقلوب ونفوس أغلب أهل مصر، وقد كان مستقرًا، يؤلمهم لكن يسمح لهم بالحركة، فتحسب الحسابات لهم، بخاصة للجماعة، فآثر الإخوان أن يحركوه دون حسابٍ للعواقب.

وسنة بعد أخرى من المأساة، وشهرًا بعد شهر تجدهم يتفننون في كل شيء إلا البحث عن حل لما هم فيه، وإن لم أكن أحب أن أكون المتعرض لأهل محنة، لكن ماذا لما يطول الزمان بهم؟ ويرضون تدحرج الحجر على الآخرين، فيما تحمي ثلة أو مجموعة قليلة نفسها منه، أو كنتَ بالصامت إلى ما يشاء الله؟! وهل هذا يرضي الله قبل ضميرك؟

لولا النفس البشرية لما حاول ثلة من عسكر تركيا الانفراد بالحكم معرضين حياة الملايين للخطر، وأولهم أنفسهم، ولولا النفس البشرية لارتضى الإخوان رئاسة الوزراء في مصر، وظلوا رقم 2 في المعادلة المادية والاعتبارية من البلاد، حتى حين يستعدون للتغيير الحقيقي.

ولولا «النفس البشرية» لما قامت الحروب، وتم هلاك الملايين، ولما جاع بشر من أجل أن هناك آخرين يلقون بالغذاء لتنفق الأسماك في البحار والمحيطات، ولما صال «المنصرون»، مثلًا، وجالوا بالباطل في مجاهل أفريقيا وحواضر أمريكا، وهم يعرفون أنهم على خطأ واضح.

ولكنها تلك التي ما تشبع من الآثام، ولكل إنسان نصيبه منها مهما علا شأنه أو أنحط، والناجي منها، يصيبه أقل القليل، وهو صنف من الناس رضي الله عنه وحده، وإلا لما حفلت النار بأجساد لم تكن تحب أن تخلد في العذاب، والعياذ بالله.

لكن الأسى كل الأسى على بعض العقلاء إذ يفعلون، مع الاحترام وبعيدًا عن الحكم عليهم، فأمر علاقتهم بالله بينهم وبينه، الأسى على الذين إن استمعوا النصح منهم، عز عليهم أن يثبتوا أمام نفوسهم أولًا أنهم على خطأ، وأن الحجر الذي حركوه، لم يعودوا يستطيعون إيقاف تدحرجه، لا لشدته عليهم، ولو أنهم استبسلوا ونبذوا الخلاف وحظ النفوس الذي يجعل كل منهم ليس أكثر من مجرد معجب برأيه، لأوقفوه وأنقذوا أنفسهم. لكن لله في خلقه شؤونًا وشجونًا أيضًا!

حظ النفوس هو الذي دلها على أن أعمارنا، كتاب سيظل مفتوحًا مهما قلبنا في صفحاته، ودل الحمقى في العالم أن بإمكانهم ممارسة الجنون على الخلق منذ النمروذ، وقيل النمرود، والفراعنة، وقوم عاد وثمود، وأهل بابل وهلم جرًا، حتى انطوى وجودهم لا حضاراتهم فقط، كما ذهب الفرس والرومان، وكما ثملت الحضارة العربية الإسلامية من آسف فهوت حتى حين، كما تعلقت نفوسنا، مع الفارق، بجمع كُون جماعة كنا نحب لها استمرارًا!

ربنا أعنا على نفوسنا، ولا تجعلنا محركين لحجر يردينا فيما نظن أننا على الصواب المطلق. فقد كُتب على كل منا حظه من التيه، والعاقل مَنْ استطاع التحكم في نفسه، وحجره!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد