إذا كنا نبحث عن إجابة مباشرة وقاطعة فنحن لم نخرج من نظام الالتزام أساسا حتى نعود إليه مرة أخرى حتى وإن تظاهر العالم من حولنا بأننا أصبحنا نملك الإرادة السياسية ولا جباية لأحد علينا خارجيا وأن كله بالقانون داخليا.
وحقيقة الأمر أنه كما يدعون وأن كله بالقانون خارجيا وداخليا فالنظام الدولي لا يتحرك إلا وفق القانون بل أنه سن القوانين التي تتيح له حرية الحركة دون أدنى مخالفة فيكسب أفعاله الشرعية، فالقوانين الدولية وقوانين الأمم المتحدة ولوائحها وقوانين حقوق الإنسان والمعاهدات والاتفاقات والتوصيات وكل ما شابه هو لفرض النظام العالمي الذي وضعه الأقوى للضعيف، وضعه الأعلى للأدنى وكانت القوانين هي الأداة المسيطر بها دائما لصالح الأقوى واضعها.
فهل كنا نملك رفاهية رفض هذه القوانين أم أن حكوماتنا تلعب دور الملتزم لصالح الأقوى وهو النظام العالمي؟!
من هو الملتزم؟
ظهر الملتزم في عصر الدولة العثمانية وكانت تطبق الالتزام في ولاية مصرالعثمانية عن طريق تقسيمها لمناطق (أشبه بالمحافظات)، والملتزم هو الشخص المسئول عن منطقة معينة يدفع عنها الضرائب من ماله الخاص مرة واحدة على أن يقوم بتحصيلها من الفلاحين لاحقا بنسبة معينة أعلى يحددها له الوالي، ويتم تغيير شخص الملتزم كل سنة كي لا تكون حكرا على شخص، ولكن بانحطاط الدولة وضعف حكامها، أصبح الملتزمون يستغلون مناصبهم ويجمعون أكثر من المبالغ القانونية، ويسيئون بذلك إلى الفلاحين وإلى اقتصاد الريف بصوره عامه، وبلغ من ازدياد قوة وسلطة بعض الملتزمين ازاء ضعف الدولة؛ ان احتكروا الالتزام عدة سنوات، وأورثه بعضهم إلى أبنائهم من بعدهم.
وأصبحت غالبية الملتزمين يتمتعون بسلطة حيث إن الحكام يعتمدون عليهم في جباية الضرائب ولا يستطيعون التحرك دونهم فتحولوا من أداة في يد الحاكم لسلطة تنفيذية اقتصادية مستقلة، أي أن الإرادة للملتزم تحولت لتحقيق مصلحته الشخصية حتى وإن أضر الشعب.
وبقول آخر كان الملتزم لا يملك أي إرادة تجاه من ولاه بل المولى هو من يتحكم به ويضع له القوانين وفي حالة ضعف المولى كان الملتزم يستبد ولكنه يستبد على شعبه وليس على من ولاه فهدف الملتزم هو السرقة والنهب وليس الخروج من ظلم جابي الضرائب العثماني والعمل من أجل الفلاح البسيط.
أي أن عامل الالتزام يعتبر انعكاسا لعامل الإرادة المتعلق بالعمل لصالح أو لضد الفلاحين المعبرين عن المجتمع أي بمفهوم العصر الإرادة السياسية للملتزم.
وكانت الدولة في العصر الحديث قد عرفت أنها مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم محدد جغرافيا ويخضعون لسياسات معينة تتولى شؤونها الدولة، وتشرف الحكومات ومؤسسات الدولة على أنشطتها المختلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا والتي تهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها.
ويتبين من التعريف أن الحكومات معنية أساسا بتقدم الدولة وازدهارها وتحسين مستوى الفرد.
ومع اختلاف الخريطة السياسية واختفاء إمبراطوريات وولايات وظهور دول وفق المفهوم السابق اختلفت أشكال الصراع وأدواته، ومن العبث تصور أو تخيل انتهاء الصراع وأن الإمبراطوريات تنازلت عن ولايتها القديمة ولكنه شكل جديد لاحتلال قديم وفي بعض الأحيان تغير المحتل يدفع لتغيير شكل الاحتلال، فالاحتلال لم يعد يتطلب تسيير الجيوش والدخول في مواجهات مباشرة بل يكفي تحصيل أسباب القوة وفرض إرادة سياسية معينة عن طريق احتلال العقول ولذك تحور وتحول الالتزام ليناسب العصر واختفى التزام الأموال واتخذ الالتزام أشكالًا متعددة منها القانون الدولي المتعلق بالنظام العالمي (أحادي القطب حاليا حتى وإن وجدت بعض المناوشات والمنازعات) والاتفاقات والمعاهدات التي تتم اسما بين الدول وبعضها ولكنها في أصلها بين من الأقوى ومن الأضعف ولايملك الضعيف المخالفة ولكنهم وكالعادة يلهوننا بالصورة الزائفة والتمثيل المشرف.
غير أن تطور الصراع لم ينهِ أبدًا السنة الكونية القائمة على أن البقاء للأقوى عسكريا ولكنه أضاف لها عدة محاور منها الإعلام والتكنولوجيا والمواد الاستهلاكية فهذه المكونات هي التي تستخدمها الحكومات المختلفة لفرض إرادتها السياسية على غيرها من الحكومات الأضعف ولكن بطريقة لا تجلب لها المشاكل فكانت المعاهدات والاتفاقيات.
أمثلة على تغير شكل الاحتلال
في دستور 1971، كان الحديث عن الجيش في نص مفاده “الدولة وحدها هي من تنشئ القوات المسلحة، التي هي ملك للشعب وتختص بحماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها، ولا يجوز لأية هيئة أو جماعة إنشاء تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية، والدفاع عن الوطن وأرضه واجب مقدس، والتجنيد إجباري وفقاً للقانون”.
وكان الجيش من اختصاص الدولة وحدها لأنه المعني بالأمن القومي للدولة، والتدخل فيه يعني انتهاء الدولة، والأمن القومي عند الجيش يعني التسليح ضد العدو المحتمل، فيتم التسليح وفق الصراعات الواقعة أو المتصور حدوثها من وجهة نظر قيادات جيش هذه الدولة دون تدخل أو فرض رؤية من أية جهة أخرى.
غير أنه حاليا أصبح تسليح هذا الجيش مرتبطا بالآخر الذي يملك السلاح ويمتلك أدوات القوة ويدعي حفاظه على النظام العالمي بعد أن أصبح العالم كما يقولون قرية صغيرة وقائد واحد، فأصبح تحدثه عن تغييره لتسليح الجيش وفق رؤياه الخاصة أمرا مستساغا يمر مرور الكرام، وقد حدد أول مهام جيشنا نحن وربط تسليحنا نحن بمكافحة الإرهاب الذي يحاربه هو، وادعى بعدم حاجاتنا للأسلحة الثقيلة المباشرة (كان المشير طنطاوي يشدد على أهمية التسليح الثقيل لتخيله الدائم الحرب مع العدو البعيد إسرائيل) فحين نتكلم عن تغيير التسليح والمهام فهذا عبث بعقيدة الجيش الخاص بدولتنا نحن أيضا، أي أنه الاحتلال بدون جيوش ولا حروب ولكن بالتحكم في الإرادة السياسية للدولة وتوجهاتها.
ومما لا يخفى على أحد أيضا في حادث الطائرة الروسية الأخيرة كان إجلاء الرعايا يتم في المطارات عن طريق البعثات التأمينية الأجنبية في مطار شرم الشيخ، وتطبيق نظام الشحن الجوي الجديد في مطاراتنا والذي يتضمن مراقبة إلكترونية يكون بثها المباشر للإدارات الأمريكية.
ولكن هل نملك رفاهية الرفض؟!
الرفض يعني وجود إرادة سياسية مدعومة من الشعب (الشعوب هي العامل الأهم والأساسي للإرادة السياسية) تمتلك حلولا بناءة وأدوات لإدارة الصراع والبقاء.
أما الإجابة المباشرة فقطعا لا نملك أولا لعدم وجود تواصل ولا دعم شعبي لقرارات الدولة غير المعنية أصلا بوجود هذا الشعب ولأن برفض الحكومات سوف تزج بنفسها للوحش كلقمة سائغة يطبق عليها قوانين المجتمع الدولي وعقوبات من يخالف النظام الدولي العام وهذا ما تخشاه خوفا على مصالحها الفردية الشخصية.
لذلك فالحل الأمثل لهذه الحكومات هو العودة لنظام الالتزام مرة أخرى (حتى وإن اختلفت صورته فلا توجد جيوش محتلة ولا يوجد تصريح بتبعية لدولة بعينها ولكننا نتبع المجتمع الدولي وجزء من نظامه حتى وإن أصابنا الضرر)، فتنفذ التزامها وما يطلبه منها الحاكم الفعلي مقابل حمايته لها للبقاء في الحكم وإطلاق يده في هذه المساحة المتروكة له يعيث فيها فسادا طالما تضمن ولاؤه والحفاظ على مصالحها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
الجيوش العربية