لا شك أن إعمال العقل في الأمور كلها أمر من الله ـ جل وعلا ـ حيث ذكر العقل نحو تسع وأربعين مرة في القرآن الكريم.

 

 

 

 

وقد أتت رسالة التوحيد والإيمان بالله في القرآن مخاطبة للعقل وداعية لإعماله في شتى الأمور بالتفكر والتدبر في آيات الله والكون؛ حتى يكون أداة للعاقل يعرف بها ربه ويصل بها للحقيقة.

 

 

 

 

ما هو العقل؟

 

 

بالبحث عن معنى العقل ومفهومه، وفقا لكلا من المعجم الوسيط والقاموس المحيط، فإنه ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها. وما يكون به التفكير والاستدلال، وما به يتميز الحسن من القبيح،  والخير من الشر، والحق من الباطل. والعقل أيضاً هو العلم بصفات الأشياء من كمالها ونقصانها، أو العلم بخير الأمرين أو شرهما ، أو مطلق الأمور.

 

 

 

وعقل الشيء، أي: ربطه، فإذا وُصف الإنسان بأنه عاقل ، أي عنده موانع ذاتية تمنعه من فعل الأمور المنافية للمنطق والعقل.

 

 

والمعروف أن العقل هو جهاز حيوي يُمكّن الإنسان من إدراك محيطه واستنباط طرق للتعامل والتكيف معه أيضاً، والعقل – الذي فُضّل به بنو آدم على سائر المخلوقات – له مبادئ يُعمل بها وتسمى بالمبادئ العقلية.

 

 

المبادئ العقلية

 

هي عبارة عن المبادئ التي تنظم المعرفة ، وتنسق أفعال العقل في بحثه عن الحقيقة. وهي قسمان، مبدأ الهوية أو الذاتية ومشتقاته ومبدأ السبب الكافي ومشتقاته. هذه المبادئ هي الأساس الذي يمكن عليه بناء ارتباطا منطقيا بين حدود البرهان.

 

 

 

وكمبادئ موجِهة للمعرفة فلها ثلاث صفات أساسية: أنها موجودة لكل عقل ومُنطبقة على كل شيء وهي ضرورية، فالعقل لا يستطيع أن يستوعب مبادئ مناقضة لها، وهي أيضاً بديهية وفطرية.

 

 

فإذا أراد الإنسان أن يتوصل إلى حقيقة أمر فعليه أن يعيى هذه المبادئ وشروط تطبيقها ويستخدمها لعقل ما نُقل إليه من أخبار و آثار باستخدام ضوابط منهجية مدروسة.

 

 

النقل

 

أما النقل ، فالمقصود منه حين يُقرن بالعقل ، معروفاً  ومفهوماً، هو العلم الذى مصدره الوحى الإلهى، أى مصدره النبوَّة، ومن شأن هذا العلم أن ينقله الخلف عن السلف، وتتوارثه الأجيال بعضها عن بعض. فهذا العلم لم ندركه عن طريق الملاحظة أو التجربة أو التفكير المنطقى أو الرياضي، بل نقلناه عمَّن قبلنا، وهم نقلوه عمَّن قبلهم بالسند المتَّصل، إلى النبى المُوحَى إليه من الله تعالى، ومن شأن مَن نقلوه أن يؤمنوا بمصدره الربَّاني، وأن يتلقَّوه مذعنين لأصوله ومُسلَّماته،

 

 

 

 

 

 

 

وإن كان لهم حقُّ استعمال العقل فى فَهمه وشرحه وتفسيره والاستنباط منه. وقد عملت العقول الكبيرة من الأمة فى خدمته وتجليته، ووجدت بسبب ذلك علوم شتَّى، من التفسير، والحديث، والفقه، والسلوك أو التصوف، وعلم التوحيد أو علم الكلام، وعلوم أخرى.

 

 

 

 

بعد تعريف العقل ومبادئه والمقصود بالنقل، فمن الجدير بالذكر أن المفكرين قد انقسموا إلى ثلاث فرق في الأخذ بالعقل أو النقل أو موازنتهما معاً بين العقليين ، والنقليين والوسطيين.

 

 

 

 

فالعقليون هم المبالغون فى اعتبار العقلانية رافضي القطعي من النصوص. والنقليون هم المبالغون فى اعتبار النقلانية رافضي إعمال العقل. أما  الوسطيون فهم الجامعون بين العقل والنقل بالقسطاس المستقيم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من أهم ما يميز التيار الوسطي: أنه وضع الضوابط المنهجية للتعامل مع النصوص الدينية، سواء كانت نصوص القرآن أم نصوص السنة. وهذه الضوابط من شأنها أن تقيم توازنا بين النظرة العقلية، والنظرة النقلية.  ومن تلك الضوابط على سبيل المثال لا الحصر:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أـ قطعية ثبوت النص القرآنى

 

لا يقبل المنهج الوسطي  أى كلام أو جدال فى ثبوت القرآن، فهو كله، قطعى الثبوت بلا أدنى شك، ثابت بالتواتر اليقيني، حيث تلقاه الصحابة من فم رسول الله، فحفظته صدورهم، وتلته ألسنتهم، وكتبته أيديهم، وتلقاه من الصحابة تلاميذهم من التابعين، وأخذه عنهم أتباعهم. وهكذا تلقته أجيال الأمة بعضها عن بعض، يتلونه سرا وعلانية.

 

 

 

 

 

 

 

 

لا يستطيع أحد أن يحرف فيه. وقد نُقل القرآن ملفوظا ومكتوبا. فأما ملفوظا، فلا يوجد كتاب فى العالم يُقرأ كما قرأه النبى المنزل عليه وأصحابه، إلا القرآن، المحفوظ بمده وغنه، كما كان يُقرأ فى عهد النبوَّة، وألف فى ذلك (علم التجويد). وأما مكتوبا، فقد كُتب القرآن فى عهد عثمان – الخليفة الثالث – بشكل رسمى معتمد من الخليفة، ومن معه من الصحابة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ب ـ التثبت من صحة الحديث

 

أما الحديث، فهو الذى يجب التثبت من صحة ثبوته. نعرضه على المعايير العلمية التى وضعها علماء الأمة استنادا على المبادئ العقلية المتعارف عليها ووفق منهجية محددة اجتهد العلماء في تطويرها وتفنن دارسيها في انتقادها وتعديلها  لقبول الأحاديث وردها. وهى معايير منهجية صحيحة، لا طعن فيها.

 

 

 

 

ولكن الخلل والخلاف يأتى من عدم تطبيقها تطبيقا دقيقا. فمثلا ، الحديث الصحيح عند أئمة الحديث هو ما اتصل برواية العدل التام الضبط من مبدأ السند إلى منتهاه وسلم من الشذوذ والعلة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولكن بعض العلماء قد يقبلون أحيانا  من ليس عدلا كامل العدالة. وقد يقبلون أحيانا العدل الكامل ، ولكنه ليس تام الضبط، حُسبت عليه أوهام وأغلاط فى روايته، أو تغير بآخر عمره. وقد يكون ظاهر السند متصلا، ولكن بالتأمل والتعمق والموازنة، يتبين للباحث  أن الحلقات ليست متصلة تماما، بل هناك فجوة فى الوسط أو فى الأول أو فى الأخير. وهذا يسبب ضعف الحديث.

 

 

 

 

 

وقد يكون السند متصلا بالثقات العدول الضابطين، ولكنه لم يسلم من الشذوذ، فقد يكون الراوى الثقة الذى رواه  خالف من هو أوثق منه. وقد لا يسلم من العلة فى سنده أو متنه. فالراسخون فى العلم إذا وقفوا فى سند الحديث اكتشفوا فيه علة تخفى على غيرهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وقد تكون العلة فى متن الحديث ومضمونه، كأن يكون مخالفا للقواطع العقلية أو القواطع العلمية، أو التاريخية أو الواقعية، أو لقواطع القرآن، أو قواطع السنة. وهو ما يجعل أهل العلم يرفضونه ولا يقبلونه، كما قال الإمام ابن الجوزي: (إذا رأيت الحديث، تخالفه العقول، أو تباينه النقول، أو تناقضه الأصول، فاعلم بأنه موضوع).

 

 

 

 

 

 

 

ج- وصل النصوص الجزئية بالمقاصد الكلية

 

ومن الضوابط المنهجية للمدرسة الوسطية ايضاً أنها تربط النصوص الشرعية الجزئية التى جاء بها القرآن، أو الأحاديث النبوية بمقاصدها الكلية، وأهدافها العامة. وفى هذا المجال مدارس ثلاثة:

 

 

 

 

 

 

-المدرسة الظاهرية: هي  التى لا تهتم بالمقاصد، ولا تؤمن بأن أحكام الشرع معللة، ولا سيما فى المعاملات وشئون الحياة المختلفة، شئون الأسرة، والجماعة والدولة، والشئون الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والعلاقات الدولية. فهم لا ينظرون إلى المقاصد بإطلاق.

 

 

 

 

 

 

 

 

– المدرسة المعطلة للنصوص:  فى مجال الشريعة، لا فى مجال العقيدة كالمعطلة القدامى، وهؤلاء نقيض المدرسة السابقة تماما، فإذا كان الظاهرية لا ينظرون إلى المقاصد الكلية، فهؤلاء لا ينظرون إلى النصوص الجزئية، من قرآن وسنة، زاعمين أنهم يوافقون روح الإسلام، أو مقاصد الإسلام. بل يتجاوزون تلك النصوص عمدا، باسم المصلحة أو التقدم،  أو مواكبة العصر أو العولمة، أو الحداثة أو غير ذلك. معللين  فى ذلك أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، عطل النصوص باسم المصالح. ولكن عمر بن الخطاب لم يعطل حدا او نصا إلا لأن شروطه لم تنطبق على المُقام عليهم.

 

 

 

 

 

 

 

-المدرسة الوسطية: التي تعطى كل جانب حقه ، جانب النص الجزئى، وجانب المقصد الكلي، ولا تضرب أحدهما بالآخر.

 

 

 

 

 

 

 

 

د- لا تعارض بين عقل صريح ونقل صحيح

 

ومن ضوابط هذا المنهج أنه لا يوجد   نقل صحيح يتعارض مع عقل صريح، بل التوافق بين الثابت عقلا، والثابت دينا وشرعا.

 

 

 

 

 

 

 

وأساس هذا أن العقل نعمة من الله، والوحى نعمة أيضا من الله، فكلاهما من آثار الألوهية. وآثار الله تعالى لا تتناقض،   ولا تتعارض.  وإنما يحدث التعارض فى أفهام الناس.

 

 

 

 

 

 

فقد يظن بعض الناس بعض الأمور من صلب الدين، ويجادلون فيها، ويتهمون من عارضها، وعند التحقيق يتبين أنها ليست من الدين فى شيء، وأنها أُلصقت بالدين وليست منه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وقد يكون الأمر بالعكس  أن يحسب بعض الناس بعض النظريات أو الدعاوى العلمية  حقائق أثبتها العقل، وأيدها البرهان، وهى مجرد افتراضات لا أكثر من ذلك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هـ ـ الإيمان بسنن الله ورفض المبالغة فى تصديق الخوارق والأوهام

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ومن مظاهر العقلانية ـ  فى فهم النصوص ـ التى يؤمن بها التيار الوسطي  إيمانه المطلق بسنن الله فى الكون وفى الاجتماع البشرى، وأنها لا تتبدل ولا تتحول، ومنها: احترام   الأسباب  التى أقام الله عليها هذا العالم بمن فيه وما فيه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ورفض  المبالغة فى الخوارق، و اتباع الأوهام، التى لا تستند إلى علم موثّق، ولا إلى وحى مصدّق، ولا إلى واقع شاهد، كزعم أن الجنى يدخل فى جسم الإنسان، ويتحكم فيه، و هذا يتنافى مع تكريم الله للإنسان وجعله خليفته فى الأرض، وتسخير ما فى السماوات وما فى الأرض له.

 

 

 

 

 

 

فيم الخلاف؟

 

الذى يحتمل الخلاف، وتعدد وجهات النظر، هو دلالة النص، سواء كان نصا قرآنيا، أم كان نصا حديثيا. فهنا يختلف الفهم وتزل القدم. وفيه يحدث الأخذ والرد  بين المدارس المختلفة، والاتجاهات المتباينة. والاختلاف هنا قد يكون أساسه عقليا. وقد يكون أساس الاختلاف نفسيا، فهذا يميل إلى التيسير، وذاك يميل إلى التشديد، هذا يأخذ بالرخص، وذاك يأخذ بالعزائم، هذا يجنح إلى الأيسر، والآخر يجنح إلى الأحوط.

 

 

 

 

العقل أم النقل؟

 

 

تقديم العقل على النقل واجب و فوائده عظيمة، أما للمسلمين فلأهمية اقتناع المسلم بدينه وحتى يكون الدين مُتسقاً مع العقل لا يعارضه ، فلا يؤدي الى ابتعاده عنه واليأس منه والنظر اليه كأنه قيدا ود لو فرّ منه.

 

 

 

 

 

 

 

 

ونجد اليوم التفكير في ما يخص الشرع مقتصرا على الأئمة والشيوخ، بدلا من دعوة المسلمين عموما لطلب العلم الشرعي  الذي يرغبهم  في معرفة دينهم وترسيخ عقيدتهم والسعي وراء اثارة ما يشوب الدين ويتعارض مع العقول فيحفز علماء الأمة ليجددوا وينقحوا العلوم لتكون اكثر دقة واتساقاً مع الأصل وهو الكتاب المنزل المحفوظ الى يوم الدين.

 

 

 

 

 

وحين يكون المسلم مثقفا شرعاً ، سيستطيع ان يحكم على ما يذاع امامه في الإعلام المقروء او المسموع ويميز ما بين الخبيث والطيب وبين من غرضه التجديد وحماية الدين وبين من غرضه التجديف  و دس السم في العسل. وهذا لا يلغي دور العلماء فهم الملاذ لمن يصعب عليه الفهم أو أبتغى تفسيراً او التبست عليه شبهة.

 

 

 

 

 

و يأتي تدريس أساسيات العلم الشرعي في المدارس خطوة لابد منها حتى نحمي عقول أبنائنا من التطرف نحو المغالاة في الدين و التطرف في العقلانية الذي يمحو العقيدة من قلوبهم بالممحاة.

 

 

 

 

أما غير المسلمين الذين دخلوا في الإسلام بعدما ناقشوا علماءً أجلاء من أئمة الوسطية، ليسوا بقليل، ومن دخلوا في الدين بعدما قرءوا القرآن وعقلوه بعقولهم أكثر ، اما من نُفّروا من الإسلام السمح بعدما قرءوا وسمعوا المغاليين في الدين والمتشددين فيه فهم أكثر بكثير.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

Leibniz, Nouveaux essais, liv.1 ch. 1, p20 [1]
[2]  المعجم الوسيط (2/640)، مجمع اللغة العربية
[4] كتاب الموضوعات - لابن الجوزى صـ5
عرض التعليقات
تحميل المزيد