إن أكثر ما يهم النفس البشرية في هذه الحياة الدنيا، أن يتحقق لها العدل، وأن تحصل على حقوقها كاملة، وخاصة أثناء اختلافها، ونزاعها، وصراعها مع الناس الآخرين.
فيزداد قلقها، وتوجسها بشكل خاص إذا ما تعرضت إلى جور وظلم، واعتداء من بعض الناس، فتصبح في حالة غضب، وهيجان، وغليان، وتوتر، وانزعاج شديد، ورغبة جامحة وصادقة وقوية، في أن يكون القضاء عادلًا، كي تحصل على حقوقها كاملة، دون زيادة ولا نقص.
ولكن البشرية جمعاء تعاني من البؤس، والشقاء، والتعاسة من فقدان العدل، والإنصاف لدى محاكم بلادها، التي تقضي وتحكم بما يأمرها القانون البشري، والذي أصبح وثنًا وصنمًا، يُعبد من دون الله، فيُحل لها الحرام، ويحرم عليها الحلال، ويُضيع حقوق الناس – إلا قليلًا منهم – ويستغرق القضاء في بحث مسألة بسيطة سنواتٍ وعقودًا، وقد يحصل صاحب الحق على حقه، بعد هذه المعاناة الطويلة، وقد يتخلى عن حقه نهائيًّا، لما يواجهه من عنت، وتعب، وإرهاق، ومللٍ، وضجرٍ، وتضييع وقت ومال، وخسارة في صحته البدنية، والنفسية، والعقلية.
أسباب فقدان القانون البشري مقومات تحقيق العدل
1- وأنى لقانون صنعه البشر أن يحقق العدل؟! وكيف يمكن أن يحقق العدل؟! والبشر مترع حتى الثمالة، ومتخم بوساوس الشيطان، الذي يجري في الإنسان مجرى الدم، كما ورد في صحيح أبي داود عن أنس بن مالك «إنَّ الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدَمَ مَجرَى الدَّمِ». ويزين له الشر والفاحشة، والرذيلة، ويحببه بها، ويدفعه دفعًا إلى ارتكابها، كما قال تعالى عن فرعون ﴿وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرۡعَوۡنَ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ وَصُدَّ عَنِ ٱلسَّبِيلِۚ﴾ غافر 37، كما يحبب له الحرام ويشجعه على ممارسته، وفي الوقت نفسه يبغض إليه الفضيلة، ومكارم الأخلاق، ويُكرهه بالحلال ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ﴾ آل عمران 14.
2- كيف يمكن لبشر عاجز، وقاصر عن إدراك طبيعته، التي خلقه الله سبحانه عليها، وجاهل لما فيها من غرائز، وما فيها من عواطف، ومشاعر، وأحاسيس، وما تحتويه من رغبات وأشواق، ويُسيره الهوى، ويقوده إلى ارتكاب الشر والسوء، وهو يظن أنه يفعل الخير، أن يصنع قانونًا يحقق العدل؟! ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنٗاۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۖ﴾ فاطر 8.
3- لا يمكن للبشر – ولا بأي شكل من الأشكال – معرفة كنه الكينونة البشرية، إلا من خلقها، الذي أودع فيها كل المقومات الأساسية، والضرورية، للعيش على ظهر الأرض، بسلام وأمان، بعد أن أنزل أبيها آدم وزوجته حواء من الجنة، إلى الأرض، بعد أن عصيا الله، وأغواهما الشيطان الذي قال لهما: ﴿وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنۡ هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيۡنِ أَوۡ تَكُونَا مِنَ ٱلۡخَٰلِدِينَ (٢٠) وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ (٢١) فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ (٢٢)﴾ الأعراف.
4- والبشر بجبلته وطبيعته الخَلْقِية، مشبع بالغرائز، والشهوات، وحب الدنيا وزينتها، وممتلئ بالهوى، ومُتخم بوساوس الشيطان، الذي يُغويهم، ويمنعهم منعًا باتًّا من النظر إلى أمور الحياة، نظرة حيادية، ونظرة صائبة، ونظرة شاملة، لكل متطلبات البشر، على اختلاف عقائدهم، وأفكارهم، وتنوع مشاربهم، وأعراقهم، وألوانهم، ولغاتهم، خاصة وأن الشيطان قد أقسم ليُغوين بني آدم ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ الحجر 39.
5- هذه حقيقة البشر بشكل واقعي وملموس – لا شك في ذلك ولا ريب – فهو مخلوق ضعيف ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا﴾ النساء 28.
ولا أدل على ضعفه وعجزه، من أن مخلوقًا صغيرًا جدًّا جدًّا، يُقدر مقاسه بالنانو، الذي هو جزء من مليون من المليمتر، يُسمى فيروس كورونا، الذي هاجم البشرية في الأرض كلها، وأصاب منها حتى هذا اليوم السابع من مارس (آذار) 2021، 117 مليونًا، وقتل مليونين و600 ألفٍ منها، وهي حيرانة، لا تعرف كيف تصده، أو تقتله، أو تعدمه. وقد مضى على مهاجمته لها أكثر من سنة.
فإذا كان البشر، بهذا الضعف، وهذا الهزال والهوان، أمام مخلوق ضعيف، صغير دقيق مجهري، وقد تمكن من استعمار أجسادهم، والعبث فيها، وقتل بعضها، ومع ذلك، لم يتمكنوا حتى هذه اللحظة، من مقاومته، والتغلب عليه، فأنى لهم أن يصنعوا قانونًا عادلًا، ينظم أمور حياتهم كلها، وهم يجهلون طبيعة أنفسهم، وطبيعة من يغزوهم، من مخلوقات الله الأخرى؟! ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن یَخۡلُقُوا۟ ذُبَابࣰا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُوا۟ لَهُۥۖ وَإِن یَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَیۡـࣰٔا لَّا یَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ﴾ الحج 73.
إنه لا يدرك هذه الأمور، إلا من صنع الإنسان، وكونه، وشكله، كما ذكرنا في مقالنا السابق، بعنوان «أليس الصانع أعرف بصنعته ممن سواه؟!».
6- فالهوى الذي يسيطر على قلب الإنسان، والانحياز الفطري، نحو قبيلته، أو عشيرته، أو من يُحسنُ إليه، والذي يهيمن على عقله، يدفعانه دفعًا إلى أن يصنع قانونًا، يخدم مصلحة الفئة التي كتبته، في الدرجة الأولى، دون أخذ أي اعتبار للفئات الأخرى، وإن حاول أن يلبي متطلبات وحاجيات الفئات الأخرى، فلن يستطيع إلى ذلك سبيلًا.
7- لأن عقله قاصر، وإمكانيات تفكيره ضعيفة، لا يستطيع بأي حال من الأحوال، أن يلم عقله الصغير، بكل تشعبات الحياة الدنيا، وكل تداخلاتها، وتناقضاتها، وتجاذباتها، واختلافاتها، وصراعاتها، وهذا تأكيد، وتوثيق من الصانع المبدع له، بأن الخالق لم يعطه من العلم إلا قليلًا ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗاً﴾ الإسراء 85.
8- وبما أن الحياة واسعة، وشاسعة، فلا يستطيع العقل البشري، المحدود الإمكانيات، والطاقات، وعلمه القليل، أن يجمعها، ويستحضرها كلها في عقله الصغير.
فالله تعالى، هو الوحيد والأوحد، الذي يقدر أن يحيط بأمور الحياة، وما تطلبه البشرية من طلبات، وما لديها من رغبات، وما عندها من تمنيات، وأمنيات، لأنه هو الصانع لها، فهو سبحانه يعرف مداخلها، ومخارجها، وهو يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وعلمه واسع، وهو الخبير والبصير بعباده جميعًا ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَ ٰسِعٌ عَلِیمࣱ﴾ البقرة 115، ﴿إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِیرَۢا بَصِیرࣰا﴾ الإسراء 30.
لذلك هو الأكفأ، والأقدر، والأجدر، أن يضع لها قانونًا شاملًا، يلبي حاجيات ومتطلبات البشرية، وطموحاتها، ورغباتها، وأشواقها، ويوازن بين غرائزها جميعها، فيحققها لها بالعدل الكامل، دون شطط، ولا إفراط، ولا تفريط، كل ذلك، في جو نظيف، ومناخ معتدل، وبيئة صالحة، يخيم عليها الطهر، والعفاف، والخلق الكريم، والفضيلة، وفي مكان شريف، راقٍ، لائق بالإنسان المكرم.
9- علاوة على تلك الصفات السلبية التي يتصف بها البشر بشكل عام، فإن ثمة صفة سلبية خطيرة وشديدة السوء في الذين يكتبون القانون البشري، فهم أضعف الناس طرًّا في الذكاء، والعلم، والمعرفة، لأنه لا يدخل كليات الحقوق أو القانون في العالم أجمع – إلا قليلًا منهم – إلا طلاب الثانوية ذوي الدرجات العلمية الضعيفة، والمتدنية، والتي لم تمكنهم من دخول الكليات العلمية، والتطبيقية الراقية العالية، مثل: الطب، والهندسة، والصيدلة، والعلوم التطبيقية، والآداب وسواها.
10- فالطلاب الذين لا تخولهم علاماتهم ودرجاتهم العلمية، من التسجيل في تلك الكليات، يدخلون كلية القانون مضطرين، لأنها تقبل أدنى المعدلات، وأدنى الدرجات.
11- فأني لمثل هؤلاء الطلاب الضِعاف علميًّا، وعقليًّا، وذهنيًّا، وفكريًّا والعاجزين عن تحصيل علامات عالية في الثانوية، أن يكونوا مؤهلين، وجديرين بصنع قانون صحيح، يحقق العدل، والمساواة، والإنصاف لمن هم أعلى منهم شأنًا، وفكرًا، وعقلًا، ومواهب، ولبقية الناس الآخرين؟!
12- ومما يُثبت ضعفهم الفكري، وعجزهم العقلي – إلا قليلًا منهم – تعقيدات مواد القانون التي يكتبونها، وكثرة بنودها، وما تتضمنه من لف ودوران، ولغته الركيكة، المبهمة، والموغلة في الغموض، فلا يستطيع أذكى الناس، وأكثرهم في القدرات العقلية، أن يفهمها، أو يدركها، وأكبر مثال على ذلك: بنود عقد فتح الحساب لدى أي بنك في العالم، والتي تتضمن عدة صفحات، والمملوءة بالكلام الغث، غير المفهوم، مما يضطر كل الناس تقريبًا، أن يوقعوا على العقد بدون قراءته!
الخلاصة
إن القانون البشري أعجز وأضعف، من أن يحقق العدل للناس، علاوة على أن من يكتبه، إنما يعارض الله، ويتحداه، ويريد أن يضاهئه، ويدعي لنفسه الألوهية والربوبية، لأن الحاكمية، خاصة بالله وحده، لا يحق لأي مخلوق، أن يدعيها، كما قال تعالى: ﴿ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾ التوبة 31. وفي الحديث الصحيح عن عدي بن حاتم الطائي «حَرَّمُوا عليهِمُ الحلالَ، وأَحَلُّوا الحرامَ، فأَطَاعُوهُم، فكانت تلك عبادتُهم إيَّاهُم».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست