في كتابة «من نحن: المناظرة الكبرى حول أميركا 2004» اعتمد أستاذ العلوم السياسة في جامعة «هارفارد» «صموئيل هنتنجتون» (1927 – 2008) تصعيد ما يمكن تسميته «فوبيا الثقافات» بإقصائها؛ إذ يرى أن اميركا قد تتحول إلى دولة بثقافتين مختلفتين، ما يسهل من شروط الصراع بينهما؛ نتيجة لتدفق المكسيكيين إلى قلبها!
هذه النظرة جاءت داعمة لنظريته القائمة على صراع الحضارات، والتي حملها كتابه: صراع الحضارات: وإعادة تشكيل العالم 1996.
صراع يوجب الانتهاء من التحديات التي تشكلها المنظومات الثقافية الحضارية في العالم، والتي تهدد التفرد الأمريكي وسيطرته؛ لضمان نهاية التاريخ لصالح أميركا، حسب نظرية تلميذه فرنسيس فوكوياما, مع أن المعضلة هنا ليست في صراع الحضارات، بل في هوياتها.
ما طرحه هنتنجتون, منذ بدايات التسعينيات، كان بمثابة تحريك لعجل الاستمرارية، لرؤية «جورج كيان» وتطويرها، وبمباركة من أستاذه «برنارد لويس»، والاتكاء على نظريات المؤرخ البريطاني «أرنولد توينبي».
ففي عام 1946, طرح الدبلوماسي جورج كيان مقالًا في مجلة «الشئون الخارجية» Foreign Affairs تحت عنوان: مصادر التحكم بالاتحاد السوفيتي, باستخدام اسم مستعار MR X, حمل المقال نظرية «احتواء» الشيوعية دوليًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وعسكريًا, ليمثل لاحقًا صلب السياسة الأمريكية منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية، وحتى انهيار جدار برلين والاتحاد السوفيتي, حيث اعتبر مستر X أن القضاء على النازية لن يكون نهاية للمشاكل العالمية؛ فالشيوعية خطر قادم يهدد الغرب, لابد من احتوائها بواسطة تأسيس أحلاف عسكرية لمنع انتشارها في أوروبا, والعالم الثالث.
مع انتهاء خطر الشيوعية, بشر صموئيل هنتنجتون بنظرية صراع الحضارات, مستخدمًا نفس الأسلوب الذي خطه جورج كيان باعتماد سياسة «إنهاء خطر، وإنتاج آخر»؛ للإبقاء على فاعلية المنظومة المسيطرة وثقافتها.
فالقضاء على الشيوعية ليس نهاية المشاكل العالمية؛ كون الصراع ليس، إلا أيديولوجيا قوميًا, كما أن التحديات الاقتصادية والسياسية لن تشكل تهديدًا للحضارة الغربية, ولكون الخطر الحقيقي المرتقب تحمله رياح الإسلام الممتد من المغرب إلى إندونيسيا ومن كازاخستان إلى الصومال, جراء دفاعه عن قيم ثقافية هوياتية مختلفة عن قيم الآخر.
هذا بالإضافة إلى مجموعات ثقافية أخرى, تشكل تهديدًا للولايات المتحدة، وفي مقدمتها الصين. بمعنى أكثر بساطة جاء صراع أمريكا مع الاتحاد السوفيتي محصورًا في أطر أيديولوجية, لكنه لم يطرق باب الثقافة الهوياتي, ما سهل في انتصاره وسيطرته, إلا أن هذه الثيمة, لن تصمد طويلًا انتقل الصراع إلى الثقافات والهويات الحضارية.
أقصى الإرهاب
الإرهاب فعل مرفوض، مهما كانت مبرراته لانتهاكه حرية الإنسان وحياته, أكان المستهدف مسلمًا أم مسيحيًا أم يهوديًا, أم غير ذلك, فحفظ حياة الإنسان في الأديان أولى من إنهائها.
كثيرًا ما أسأل نفسي, لو لم يكن هناك أديان أيظهر الإرهاب؟ أم لو لم يكن هناك سياسة وأنظمة أيكون هناك إرهاب؟
البعض, وبعد كل عملية إرهابية يطل بسمفونية مشروخة, تحصر الإرهاب في الفاعل، وفي حالة عملية بروكسل, وقبلها باريس كان داعش هو الفاعل, لكن هذا الحصر يربطه بالإسلام, ويسقط طبيعة المجتمع وتعاليمه وثقافته التي أخرجت الإرهابيين.
المعادلة برمتها مشوهة, تفتقد لعناصر أساسية, والا كيف تتهم الدين بالتطرف والإرهاب, ولا تلتفت إلى طبيعة المجتمع الذي خرج هؤلاء من قلبه, ففي عملية بروكسل, والتي نفذها مسلم بلجيكي, تربى في وسط أوروبا, وتشرب تعاليمها, وتشابك مع يومياتها.
قد يكون المنفذ لا يعرف من الإسلام إلا اسمه, ومن الشرق الأوسط إلا خريطته, لكنه حسب على المنطقة, فهل المقياس هنا واقعي يمكن البناء عليه؟ هذا أولا.
ثانيا: من يتحدثون عن الإرهاب يركزون على التنفيذ العملياتي, ولا يكترثون بالحديث عن الإرهاب العميق صاحب الفكرة الممتدة الذي يروج لها داعش. الإرهاب الذي يدعم ويمول ويمنح الأسباب لاستهداف الدول بالاعتماد على الدين.
كيف تستقيم العملية الإرهابية التي نفذها إرهابيو بروكسل المسلمين, وبين كونهم نتاجًا مشوها للمجتمع الأوروبي الذي لديه القابلية لإنتاج شبيه بداعش، حتى باسم الديمقراطية, هل يقوم سارق سيارات محترف بعملية إرهابية يطلبها دينه, أم أن هناك ما هو مخفي لا يراد لأحد معرفته؟
توقف الزمن
إضافة لذلك, ما هي القيمة المضافة التي يبحث عنها «داعش» في تأكيد مقدرته على ضرب عمق الدول الأوروبية, إلا إنتاج حالة مضادة «تشرعن» فعله, بحيث يتحول الصراع من صراع أنظمة ومنظمات إرهابية إلى صراع أديان وهويات حضارية.
بمعنى آخر, تأكيدًا لنظرية صموئيل هنتنجتون القائمة على صراع الحضارات, وما ينطبق عليه, ينطبق على عرابه «برنارد لويس».
فالعمليات من هذا النوع تمهد الطريق لصعود اليمين المتشدد في أوروبا وأمريكا، ممثلًا في الحزب الجمهوري، ومن يقف خلفه من المحافظين الجدد ومن بعدهم, والذين يتخذون من كتابات هنتنجتون دستورًا عمليًا لهم ولتحركاتهم.
هؤلاء إن صعدوا، فإن الصراع لابد وأن يأخذ منحى آخر, لن يبقى محصورًا في الشرق الأوسط, بل يمتد ليشمل الجميع, ليكون سببًا في انهيار منظومات أوروبية، كالاتحاد الأوروبي, نتيجة زيادة الأعباء عليه, والتمييز بين دوله, ما يجعل بعض أطرافه عرضة للتهديد أكثر من الآخرين.
دائرة الإرهاب
إرهاب مدعوم بالفكر العملي المنظم, لا الفكرة القاتلة فقط, فكر ينشر الفوضى. لنتخيل مثلًا إنتاج داعش «كاثوليكية» أو «بروتستانتية» متطرفة كما داعش «الإسلامية», كيف يمكن توقع رمادية المشهد؟
هل من الممكن السماح بإنتاج مثل هذا السيناريو, في الحقيقية عندما تنظر إلى طبيعة الدول الأوروبية تجد التربة الخصبة لذلك؛ فعدد الدول الأوروبية التي تتجه إلى اليمين المتطرف تتزايد, كما أن الخطاب العنصري الذي يعتمده مرشحو الانتخابات الأميركية كذلك ينتشر، حتى تحول إلى ظاهرة حقيقية، لا يمكن إنكارها.
داعش عندما بدأت، قالوا: «إنها رد على التهميش والتهديد الذي يتعرض له أهل السنة في العراق», أي أن وجودها ارتبط بالإقصاء الذي طبق عليهم, فكان ردهم, تأسيس منظمة تحمي كيانهم وحياتهم, حتى بالإرهاب والرعب.
هذه الفكرة ربما يعتمد عليها اليمين المتطرف الأوروبي حاليًا والأمريكي في حال صعود دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة, بحيث يشكلان جبهة مسيحية عملية ضد الإسلام, لإيمانهما بنقاوة الدم الأوروبي والأمريكي، وضرورة إقصاء أو منع أو تهديد ما دون هذا العنصر المتفوق.
الخلاصة: ضربات داعش الإرهابية ليست إلا عاملًا مساعدًا لإنتاج أنموذج مضاد لها، ينتهج أساليبها ويعتمد رؤيتها الصدامية, ويشرعن وجودها, وينقل صراعها، من أطر إقليمية أيديولوجية ضيقة إلى فضاءات حضارية هوياتية واسعة, تزيل الحدود من طريقها وتعيد إنتاج منظومة مسيطرة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست