الشك هو أن تصرخ بكل صوتك، بكل حزنك وغضبك، احتجاجًا على ما تراه وتعمله وتمارسه، لأن فيه دمامة أو تفاهة أو ألمًا أو ظلمًا أو موتًا أو عبثًا أو خوفًا أو نفاقًا. عبد الله القصيمي، هذا الكون، ص157.

 

ثمة إشكال عميق ما فتئنا نتخبط فيه منذ أن قاد أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، حروب الردة إلى يومنا هذا. الإشكال المطروح نصطدم به أثناء كل حوار أو نقاش عن الدين، سواء في منشوراتنا العادية أو نقاشاتنا مع من يهتم بالموضوع، أو حتى عند مصادفة مفارقة عادية بين ما نعلمه من الدين وما يفترض فعله حسب المنطق والعقل. عن الشك وإعادة النظر في موروثنا الديني أتحدث. لطالما كنا نتحدث عن هذا الموروث بنوع من اليقين وكأنه في شموليته مسلَّمة من المسلمات لا يجوز الخوض فيه أو مناقشته أو حتى مجرد التشكيك فيه، لهذا في السطور القادمة لن أناقش ماهية هذا الموروث أو ما يصح منه ومن تفاسيره وتأويلاته وما لا يصح، فذلك موضوع طويل، بل سأدافع عن حق الشك فيما لا يقبله منه عقل، ولا يتطابق مع معطيات الحس الإنساني المشترك.

الشك عملية إنسانية بحتة، نبض العقل كما هي الحياة نبض القلب، «أنت تشك إذن أنت إنسان»، وعلى رأي شيخ الليبراليين عبد الله القصيمي: «إن الفكر بلا حركة ضلال وضياع، وإن الحركة هي صانعة الفكر في جميع مستوياته. ولكن هل انتصر أحد بالتفكير الصائب العميق؟ العاجزون هم الذين يبحثون عن الفكرة الصائبة خوفًا من الوقوع في الخطأ المقدام» (كبرياء التاريخ، ص 110).

وتاريخنا الإسلامي لا يخلو من محاولة تطبيق رؤى مشتركة على الموروث الديني المناقض للحس والعقل، أختار منه نموذج أبي حامد الغزالي، فإن كان «بيرون الإيلسي» (توفي سنة 275 ق.م) هو مؤسس الفلسفة الشكية عند قدماء اليونان، فإن الغزالي كان أول من اتخذ الشك منهجًا لليقين، وكان أحسن ما عمله رغم المناخ الفكري المتوتر في عصره أنه نحى جانبًا كل العقائد الدينية الموروثة والتباينات بين المذاهب والنصوص الإسلامية. يقول أبو حامد: «الشكوك هي الموصلة إلى الحق فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلالة». (ميزان العمل، ص409).

لكنه رغم عقله المتشكك والمتنور لحد ما أجحف بحق الفلسفة، خاصة في كتابه «تهافت الفلاسفة»، بيد أن هذا لا يمنع من اتفاق منهجه مع ما سيطوره الفلاسفة فيما بعد. فبغض النظر عن كون الفلسفة لا تروق للعديد من قراء العالم العربي (خاصة وأنها خضعت لتحوير اصطلاحي فأضحى فعل التفلسف يعني اللغو في الكلام)، يبقى اللجوء إليها أمرًا تفرضه مستجدات الواقع الغامض حيث كثر الحيص بيص، وسادت المفاهيم المتضاربة.

و لأوضح مقصدي أكثر أورد قصة مشهورة لـ«برتراند راسل»، الفيلسوف البريطاني، وهي عن دجاجتين وتوضح الفرق بين المعرفة اليقينية والأخرى التجريبية من وجهة نظر فلسفية. تقول القصة إن دجاجتين تعيشان في قفص، وذات صباح بدأتا تتناقشان حول ضرورة الخروج من قفصهما لالتقاط الحب الذي ترميه زوجة المزارع في الفناء. تقول الدجاجة الأولى: «لن أخرج لأكل الحبوب اليوم فلا أثق بالمزارعين». تجيب الثانية: «و لماذا؟ لقد أعطيانا الحبوب دومًا وهذا ما سيحصل اليوم أيضًا». تعترض الدجاجة الأولى قائلة: «هذا الأمر من حقائق الماضي ولا يعتبر إثباتًا منطقيًّا حول ما سيقع اليوم، لدي حدس أن المزارعين يخططان لقتلنا اليوم، لذا ليس من الآمن الخروج وأنا مقتنعة بذلك». ترد الثانية: «أيتها الجبانة، ثمة نظرية تقول إنه من الجائز القبول ببعض المعتقدات ولو دون إثبات مطلق، إن كان الكفر بها سيؤدي إلى رمي معتقدات أخرى، فالمعتقدات خريطة الواقع التي لا يستغنى عنها فتقودنا خلال يومنا، أما المعارف اليقينية فمجرد إثبات إضافي».ثم ينتهي الحوار بخروج الدجاجة المغامرة إلى الفناء حيث تمسكها زوجة المزارع وتصنع منها وجبة الغذاء.

لا شك أن قصة «راسل» تحيلنا للعديد من الأفكار المهمة، أخص منها بالذكر استنتاجين استقرائيين، ينص الأول على التزام الحيطة والحذر ولم لا البقاء في القفص لأجل غير مسمى قد ينتهي بالموت جوعًا، وهو ما عبر عنه «جون لوك» رائد المذهب الليبرالي حين عد الاعتماد المطلق على المعرفة اليقينية في القيام بتصرفات وردود أفعال مؤديًا للشلل. أما الثاني فيحرض على المغامرة والانطلاق للفناء حيث الغذاء دون ضمان واضح للمستقبل، لكن مع فرص متكافئة للنجاح.

لقد منحنا هبة العقل، منحنا كائنًا محاربًا خالقًا مبدعًا، منحنا مفتاحًا من مفاتيح العيش السعيد لكننا بتعطيله جعلناه مستودعًا لكل زبالات الإنسان حيث أشرعناه على تقبل كل شيء وأي شيء. وبعد أن كان أقوى وأذكى ما فينا هو على وشك أن يصبح أذل وأكذب وأخسر ما فينا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد