الثقة واحدة، من أهم خلايا سيكولوجية الإنسان تكاد تقارب في أهميتها القلب في جسده، ولا أبالغ لو قلت: إنها واحدةٌ من الأحجار الأساسية التي يترتب عليها كل الإنسان!
فذرة شكٍّ صغيرةٍ قد تغير حياة الإنسان وتنأى بها إلى طريقٍ لا عودة منه, ولا يمس شغاف ثقة الإنسان شيءٌ قدر المصداقية، فتراها كعصا الساحر: تذيب أسوار الشك والحذر عنه، تاركةً إياه بغير درعٍ يقيه، محركةً ثقته ومستحوذةً عليها، ولا عيب في ذلك، فالصدق استحق الثقة، يبدو الأمر بسيطًا! أو هكذا كان يبدو من قبل، لكنه لم يعد كذلك.
من قبل كانت مصادر المعلومات تبدو واضحةً مستحقةً لثقة الأغلبية أو غير جديرةٍ بها ببساطة, كان الناس يستيقظون صباحًا؛ لقراءة نفس الصحف لنفس الكُتاب الذين يعرفونهم كأنهم عاشروهم بشخوصهم وعرفوهم منذ نعومة أظفارهم.
وكذلك الحال حينما كانت تلتف العائلات حول الراديو تستمع إليه أو تشاهد التلفاز, وبعيدًا عن الأخبار اليومية التي قد تجد فيها الشك والصدق، فالكتب بُعدٌ آخرٌ من أبعاد المصداقية، التي أجزم بأنه لا غنى عنها مهما حدث،
ومهما تقدمنا وتطورنا فستبقى الكتب هي الكتب، وستبقى كلمات الثقافة والعلم تسارع لإثارة صور الكتب في أذهاننا، كدليلٍ دامغٍ على أبديتها، وعلى اعتبارها مصدر العلم والمعرفة لكل ما مر على الإنسان من علومٍ منذ بداية الإنسانية حتى الوقت الراهن، إنها تراث الإنسانية الوحيد الذي يستمر تسليمه من جيلٍ إلى جيل، فإذا لم تستحق الكتب المصداقية فمن سيستحقها!
هكذا بدا لي أصحاب الكتب قديمًا، هكذا بدت لي الكتب التي كانت تُخطّ بآلاف الصفحات يدويًا وأغلفتها السميكة التي كانت تستنزف من الشخص أسابيع لصناعتها، وحتى بعد تطور صناعة الكتب والوصول لسهولة كتابتها ـ تقنيًا فكتابة الكتب فكريًا ليست لعبةً للجميع! ـ ونشرها فظلت أغلفة الكتب تحمل أسماء أصحاب علمٍ أو فكرة.
بالرغم من انتشار الشائعات كحقيقةٍ راسخة على مرّ التاريخ، ولكن الأمر يبدو لي على الأقل كأن أحدًا من مصادر المعلومات، هؤلاء لم يجرؤ على خيانة المصداقية التي حملها على عاتقه ولكل قاعدةٍ شواذ.
لكنني لست أدري سبب إحساسي أننا في عصرنا الحالي لا نجد سوى شواذ هذه القاعدة؛ بحيث صاروا هم القاعدة وأصبحت المصداقية هي التي تشذ عنهم, إن الشبكة العنكبوتية كانت جنةً وجحيمًا حين جاءت إلينا: جلبت معها اتساع الآفاق، وجلب العالم كله لك في شاشةٍ صغيرةٍ أمامك تنتقل من بلدٍ إلى آخر بضغطة زرٍ،
وكذلك جلبت الجحيم على رأس ثقة الإنسان عازفةً باستمرارٍ على وتر الشك، لدرجة أننا ألفنا اللحن وما عدنا مصغين أو منتبهين له فصار الصالح بالطالح أمامنا وفي دواخلنا، ولم يعد للمصداقية من روادٍ أو أصحاب فهي صارت لعبةٌ بأيدي الجميع, أصبح بمقدور كل واحدٍ قد يفقه أو لا يفقه شيئًا عرض الأفكار أو نشر الأخبار أو تبني جهاتٍ وأحيانًا خلقها.
صار بمقدور الجميع لمس شغاف الثقات مترنمين بلحن الشك بغير رهبة، فيكفي منشورٌ أو تغريدة لبدء شيءٍ حين يصل إليّ أو إليك فنحن ببساطة لا نعرف بدايته ومدى صدقه من عدمه، فالجميع يكتب، والجميع يكذب، والجميع يصدق, فالكل أصبح يملك منبرًا خاصًا يذيع من عليه أشياء لا نعلم أنا أو أنت أو حتى هو نفسه مدى مصداقيتها، ولكنه مؤمنٌ بها ويجد من سذاجة بعض الثقات ذات الإيمان التي لا تكتفي بالتصديق، بل تساهم في النشر؛ للإيقاع بالمزيد من الثقات، فصمتنا مكتفين بالتشكيك في كل ما يقع تحت أيدينا والبحث المضني عن البداية.
وحتى بعد البحث والتأكد فلا نجد تلك الثقة المرجوة, ولكن الأمر المثير للرعب أن هؤلاء لم يكتفوا، بل وجدناهم ـ للعجب ـ يغزون الشاشات، وأسماؤهم تتصدر عناوين الكتب، فتجد اسم الواحد منهم في صدر الكتاب، وتجاهد أنت للبحث عن اسم الكتاب الذي لا يحمل بين دفتيه سوى المعنى المجسم للاشيء يمارس ذات الضغط على الحيز الضيق للمصداقية المحتجزة بكل الحبر المتناثر على سطوره بأشياء لا أساس لها من الصحة.
من أين لنا أن نعرف شيئًا الآن؟ أين نجد الأخبار إن كنا سنشكك في الجميع ونحث الخطى بحثًا عنهم، لعلنا نعرفهم لنكتشف في النهاية أننا ما عرفناهم قط!
أين نجد العلم لو امتلأت الكتب باللاشيء؟ أين نهرب من كل الأشياء التي تصل إلينا ونحن في بيوتنا على صفحاتنا الخاصة من أين لنا بالثقة ثانيةً؟ الثقة التي تبدو كأن نبعها نضب منا فجأة، بل إنه ممعنٌ في الجفاف كأنه يسوق إلينا تهديدًا صامتًا.
إن جرس الإنذار الذي اعتاد على القرع كلما تهددت الثقة بالخطر فقد الرنين مما يحدث، بل إنني حتى لست أدري لماذا وصلتم إلى هذا السطر مما كتبت فمن أين للمرء أن يعرفني ليقرأ لي! لست أدري حقًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست