“الناس تسألني لماذا تبحث عن الموت٬ بالنسبة لي.. هذه هي الحياة”
جملة قالها (فيليب) لاعب الأكروبات حينما حاول أن يسير على سلك بين برجي التجارة الأمريكي – فيلم (The walk)..
كنت أجلس في الشرفة أثناء الغروب أشم رائحة الهواء البارد وأستمتع بجمال سرب الطيور والسحب الذهبية.. صوت ضوضاء الشارع لم يكن واضحًا سوى حينما بدأت أنتبه له.. حينما تنفصل عن العالم الآخر في عقلك ستبدأ في إدراك صيحة طفل وآلة تنبيه سيارة نافدة الصبر.. وطرق أنابيب الغاز من بائع متجول.. لكن حينما تكون سارحًا في أفكارك القلقة عن المستقبل يتحول العالم إلى صوت واحد وكأنه موسيقى خلفية لأفكارك٬ أو صورة ضبابية لا تهتم بتمييز تفاصيلها.. أفكارك هي البطل الحقيقي في عقلك، ولذلك يمكنها رغم نسيم الهواء المنعش، ورغم جمال قرص الشمس الغارب؛ أن تعزلك عن الإحساس بتلك التفاصيل وتضعك في عالم كئيب.. غريب جدًّا هذا الشعور.. أن ترى الجمال ولا تبتسم سعادة به… وأن تسمع صليل حدوة الحصان ولا يُترجم في عقلك إلى موسيقى طبيعية تثير ذكريات حلوة.. ربما لأنك تفكر في يوم قادم لا تراه.. تراه بعين الغيب ضبابيًّا وترسمه بأدوات رسم ظروفك الحالية التي تفتقر إلى عنصر هام جدا.. وهو أنك فعليا لست رسام قدرك..
إننا نغرق في التفكير في مستقبل أحلامنا أكثر من حبها لذاتها.. لو سألت صاحب حلم مخضرم عن الوقت الذي كان فيه أكثر سعادة بحلمه سيقول لك حينما كنت هاويًا.. حينما كنت تمارسه كما يحلو لك.. لا يعنيك كيف يراك الناس ولا أن تحفظ نفسك في مكانة عالية زائفة.. الأحلام لا تعرف الاستعلاء.. هي ضاحكة جريئة يمكنها أن تتدحرج خارج السور متى أرادت ولا تنظر إلا إلى السماء.. دائما يترجم الناس (يصل بك الحلم إلى السماء) بمعنى العلو والارتفاع بين الناس، لكنها في الحقيقة تعني الحرية.. يخرجك من سجن الخوف والحيرة والتبعية العمياء لسماء رحبة أنت فيها سيد نفسك.. لا تمر عليك الأيام بملل، ولا يبدو لك المستقبل علامة استفهام.. كثيرًا ما قال لي الناس أن صاحب الحلم محظوظ بشكل لا يتخيله هو شخصيًّا.. لأنه خرج بسلام من مرحلة الحيرة والسؤال الأكثر إلحاحًا في نفس الإنسان.. ما قيمتي في الحياة.. حتى لو واجه إخفاقات الفشل والتعثر لكن الحلم يحفزه على الخروج سريعًا من تلك الموجات النفسية السوداء.. لذلك يجب أن تدرك أن تلك الجوهرة التي وضعها الله في قلبك غالية جدا.. لا تقدر بالشهرة ولا بالمال.. أنت تساوم الغالي بأرخص ما في الدنيا..
حينما تضع حلمك أمام المرآة وتبدأ في تكحيله وتسريحه وضبط هندامه؛ فأنت تجرده من حريته في أن يتشكل كما يريد.. في أن يكون مبدعًا مجنونًا.. سيواجه النقاد في اتجاه.. والمعجبين في اتجاه.. والصورة المرموقة تكتم أنفاسه.. لن يستطيع أن يتعدى تلك الحدود النفسية التي فرضتها عليه، وتجد نفسك قد أصبحت تبدع في إطار ضيق.. ستجده يشيخ ويرتقي في المكانة بحكم الخبرة.. وربما يرتدي أقنعة تزيده زيفًا وتعاسة.. أعرف أنك تفعل ذلك لأنك تحبه وتريده أن يكبر ويتخطى الكل.. وربما كان التنافس ينفث في النفس نارًا مفيدة تدفعك أن تخرج أفضل ما عندك.. لكن يمكنك أن تفعل ذلك دون أن تتخلى عن روحه.. يمكنك أن تقرأ كثيرًا جدًّا.. وتأتي بألوان جديدة وتسافر لأماكن بعيدة.. يمكنك أن تغذي حلمك وتسمنه.. أو لنقل تضيف إليه أبعادًا واسعة بحيث يمتد لأراضٍ من الخيال لم يجرؤ عليها.. لكن لا تجعل النجاح الجماهيري يشبعه بل المعرفة.. هناك فجوة كبيرة في نفوس الشباب الآن صنعتها وسائل التواصل الاجتماعي، وهي أنهم لا يشعرون بالرضا عن أفعالهم سوى بالمزيد من الإعجاب والتعليق.. وهذا أدى بالضرورة إلى قلة قيمة ما نفعله في مقابل ألمعيته، حتى إنك ترى الشيء التافه جدًّا منتشرًا بغزارة.. ولكن بعد خبرة الناس في تلك المواقع لسنوات أصبح عقلها يدرك كم تخسر وقتها وإحساسها الذاتي بالسعادة.. وهناك إحصائيات تؤكد مغادرة عدد كبير من الناس لمواقع مثل الفيس بوك للأبد..
القلب ليس كالطابور أو الأنبوبة التي تضغط فيها حبات الحلوى فيندفع الأقدم منهم للقاع… بل هو دائري يتسع لكثير من التفاصيل.. أنت من يختار أن يجعل نقطة فيه تخبو وتُلقى في فجوة النسيان.. كذلك تفعل مع حلمك.. لا يمكن للعمل والزواج ومسئولية الأطفال أن تنسيك من أنت وماذا تحب.. يمكنك أن تزيح مكانًا لحلمك في دائرة حياتك دائمًا.. خصص له وقتًا في الفجر أو الأسبوع لا يقترب منه أحد.. حتى أشباح الملل والإحباط لا تقترب منه، وأنا أركز على هولاء بالذات لأنهم هم فعليًّا من يبعدونك عنه.
من المهم جدًّا ألا تحتقر حلمك… قرأت مرة تصريحًا لكاتبة معروفة حينما قام أحدهم بنشر رواية كتبتها أيام الهواية.. كانت قد رفضت نشر تلك الرواية وعللت ذلك أنها كتبتها في بداية مشوارها وتخجل أن يقرأها الناس بعدما رأوها أكثر نضجًا في أعمالها الأدبية الأخيرة.. ربما هي تملك منطقًا فيما تقول لكن صاحب الحلم يجب أن يحب كل طوبة وشق وكسر في مشواره.. وأن يرى أفكاره القديمة تنضج وتتحول، وتظلم وتفتح.. من مصلحة أصحاب الأحلام الصغيرة أن يروا تلك التغيرات في قدوة لهم كي يدركوا أن الحلم لا يُولد شيخًا حكيمًا.. وكي يفهموا أن كثرة المحاولات مع مرور السنين تزيدك نضجًا.. ولو لاحظت أن أفكارك القديمة وروحك لا زالت كما هي لكن ما تغير هو الوسائل.. مثلا الكاتب يضيف تعبيرات أدبية أكثر موسيقية.. والعازف يصبح أكثر سرعة وإبهارًا.. والرحالة يصبح أكثر ثقة في التكيف مع البلاد المختلفة.. لكنك لا زلت بنفس الصدق.. هذه هي كلمة الحلم الأولى والأخيرة.. التي لو تخليت عنها لانهارت كل المعاني التي تسبب لك الحرية والسعادة.. وتبقى لك الركض اللانهائي وراء المال والسمعة وتساويت مع ما يفعله من لا حلم له.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
الأحلام