(أحلامي لا تعرف حدودًا، كل بلاد الأرض وطني، وكل قلوب الناس جنسيتي، فلتسقطوا عني جواز السفر “جيفارا”).
إذا أردت أن تفهم إنسانًا، فلا يتسنى لك ذلك إلا من خلال دراسة طفولته. إن أفعال الطفل مؤشر قوي لشخصيته في المستقبل. لذلك جمع الكتاب مشاهد من طفولة أرنستو جيفارا، ليست كثيرة لكنها كافية لتوضح أنه كان طفلًا متمردًا ومشاغبًا، وأيضا أنه منذ طفولته يريد أن يعتمد على نفسه.
ذات يوم أخذ يستعطف والدته كي تسمح له ولأخيه بالذهاب إلى مزارع العنب لكي يعملوا في قطف العنب، لكنها كانت قلقة عليهم ورفضت, ولم تقتنع إلا بعد أن أقنعها والدهم، لكنهم لم يستمروا في العمل سوى ثلاثة أيام وعادوا في اليوم الرابع بعدما داهمت أرنستوا أو تي تي كما يدعوه والداه نوبة ربو شديدة, حالت بينه وبين العمل، الربو الذي لازمه طوال حياته، وفي شبابه أيضا اعتمد على نفسه كي يتكفل بمصاريف دراسته رغم كونه من عائلة ميسورة الحال، ففي مرحلة الجامعة أخذ هو وصديقه صفقة أحذية وقاموا ببيعها وعمل أيضًا بمعمل لصناعة المبيدات الحشرية.
شارك إرنستو في عدة مظاهرات طلابية اصطدمت مع الشرطة، كان يكره المتخمين بالمال ذوي الكروش، الذين لا يعبأون بغيرهم من المحتاجين، يرفض الظلم أينما كان.
دار المقاطعات الأرجنتينية الاثنتي عشرة على دراجته الهوائية- النارية, كان يقول إذا أردت معرفة شعب فإن روح الشعب وصفاته تسكن في العجائز, وعابر سبيل تتحدث معه، وليس بزيارة المعابد ورؤية تماثيل جامدة، وأثناء تجوله رأى الجوعى والمرضى والظلم وبالتأكيد كل هذا أثر على تفكيره بشكل كبير.
سافر مع صديقه ألبرتو إلى فنزويلا، وهم في طريقهم رأى كيف كان عمال المناجم أجسادهم جافة من الجوع والقمع والعمل الشاق, استغلال الأمريكان أو اليانكي كما يسمونهم الأرجنتينيون لثروات أمريكا اللاتينية واستغلال شعوبهم في جمع هذه الثروات بلا رحمة، أمريكا التي دائما تدافع عن حقوق الإنسان قولا، وتنهك حقوقه فعلا!
عاد بعد جولته لينهي دراسته في الطب، وبعد تخرجه رفض العمل مع البروفسور بيزاني “أستاذه الجامعي”, الذي عمل معه العديد من الأبحاث، لم يكن يريد أن يصبح بروفسورًا لأنه لا يريد أن يتحول إلى عجوز هرم قبل الأوان، محتجا أنه بحاجة إلى رؤية أمريكا اللاتينية طولا وعرضا كي يتمكن من دراستها، كانت إجابته صادمة بالنسبة للبروفسور.
شارك في ثورة غواتيمالا، لكنه اضطر إلى مغادرتها بعدما أدرجته المخابرات المركزية الأمريكية في القائمة السوداء كشيوعي, وسافر إلى المكسيك. تعرف في المكسيك على فيدل كاسترو، كان فيدل شخصًا واثقًا بنفسه يؤمن بأفكاره بشكل لا يقبل الشك.
وهذا ما أعجب أرنستو في فيدل, سافر معه ومع مجموعة من رفاقهم لتحرير كوبا, كان من بينهم مكسيكيون وأرجنتين وكوبيون, لم تحالفهم الانتصارات في البداية لكن النصر كان حليفهم في النهاية, خلال نضالهم ضد النظام حصل أرنستو على لقب كومينديان في الجيش الثوري, وهي رتبة رفيعة في الجيش, وبعد انتصارهم وتحرير كوبا أصبح وزيرًا للصناعة, ومع ذلك كان ينزل يقطع القصب مع العمال ويحمل الموز. لم يهتم بالإصلاح الزراعي فقط, بل أكد أنه لا يمكن بناء بلد جديد بإنسان قديم لذلك اهتم بالتعليم. بالتأكيد لم يفعل كل هذا وحده, هو ورفاقه كانوا يناقشون ويخططون لكل شيء.
لكنه لا يريد التوقف عند هذا الحد, يريد أن يناضل في مكان آخر ويتصرف فيما يخدم أفكاره التي يؤمن بها, ما أكثر أفكارنا وأحلامنا التي ندفنها من أجل وظيفة نخشى فقدانها أو أسرة لا نريد أن نبتعد عنها, لكنه لم يرد يوما أن يخدع نفسه, عندما قرر الانضمام إلى الجيش الثوري الذي يرأسه فيدل كاسترو لتحرير كوبا قالت له زوجته إلدا: ستترك امرأة حاملا, سأبقى وحدي مع طفلنا.
لكنه رد عليها: أعرف ذلك يا إلدا, لم يكن قراري بتلك السهولة, لم يكن سهلا أبدًا.
أرجوك يا إلدا أن تفهميني, أنا لا أملك الحق في أن أتصرف وكأنني لا أفهم شيئًا في هذه الحياة, لقد درست هذه القارة جيدا, وأحسست بجمالها الجنوبي كذلك بالاستغلال الشيطاني الذي يملؤها, هذا الاستغلال الذي يجب علي تصفية الحساب معه, فلا يمكنك أن تطلبي مني خداع نفسي!
كان دائما يفعل ما يؤمن به, لذالك بعد الانتصار واستقرار كوبا, ترك منصبه واتجه إلى بوليفيا, ظل يناضل هو ومن معه سنوات إلى أن تم حصارهم واعتقل أرنستو وتم قلته رميا بالرصاص، لكن لم تكن هذه هي النهاية, كانت البداية لتخليد رمز ثوري يرفض الظلم والاستغلال ويسعى لتحرير البلاد.
إذا كنت تريد معرفة نفسك عليك أن تدرك العلاقة الخفية بين الأشياء وأن تبحث عن القوى التي تقف وراء هذا العالم وتحركه, حتى لا تترك أي مجال للسكينة, وأول خطوة تخطوها في هذا المجال هي الاستعداد لفهم الآخرين ومعرفتهم وعدم الاستسلام لما يدور وكأنه قدر عليك للأبد, عندها فقط يمكنك أن تترك أثرًا على هذه الأرض, بالفعل هذا ما فعله أرنستو تشي غيفارا.
“لا تجعل لأحلامك حدودًا, انتقل من قمة لقمة أعلى, ثق في حلمك واسعَ لتحقيقه”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست