تاريخ الطب زاخر بالاكتشافات العشوائية التي قامت بإنقاذ حياة ملايين البشر
الشفاء من مرضٍ ما –بإذن الله– أو الوقاية منه بدواءٍ خاصٍّ في كثير من الأحيان قد يحتاج لآلافِ الساعات التي يستهلكها الباحثون في الحصول عليه واكتشافه؛ وتارةً تكون خبرة الطبيب العاملَ الأساسي لإعطاء المريض دواءً بديلًا عن أدوية أخرى قد تكون أكثر استخدامًا في الحالات ذاتها لكنه أنفع له في وضعه؛ وبالمقابل فقد يُشفى المريض بالصدفة من اعتلالٍ عند إنالته دواءً كان بالأساس لداءٍ آخر.
هذه المفاجآت تنجلي عند مراقبة الآثار الثانوية للمرضى. وللحديث عن هذه الأدوية نأخذ مثالًا ما جرى بالأمانتادين –مضاد فيروسات كثر استخدامه في عقدَي الخمسينيات والستينيات– حيث يشير د. جوان رامون لابورتي مدير المعهد الكاتالوني لعلم الأدوية والمستشار لدى منظمة الصحة العالمية OMS فيقول: «لم يظهر لهذا الدواء تأثير مهم على الأنفلونزا، لكنه لوحظ أن رعشات مرضى الباركنسون الذين تناولوه خفّت بشكل لافت، وعلى إثرها قامت أبحاث لمعرفة ما إذا كان الأمانتادين من مضادات الباركنسون».
من ناحية أخرى، يُستخدم الفيناستيريد والمينوكسيديل لعلاج الصلع، وكانا قد استُخدِما ابتداءً لمداواة فرط تنسج البروستات الحميد ولارتفاع ضغط الدم على التوالي. كثيرٌ من المرضى الذين استخدموهما في علاج ما ذُكر آنفًا لاحظوا زيادة في نمو شعرهم، ومع كونها ملاحظة دقيقة إلا أنها كانت كافية للقيام بالأبحاث التي كانت سببًا في استخدامهما لهذه الغاية حاليًا.
ومن نفس المنطلق يمكننا الحديث عن أشعة X. ففي الثامن من نوفمبر عام 1895 قام الطبيب والفيزيائي الألماني فيلهلم رونتغن باكتشافِ أنه يمكن لأنبوب أشعة مهبطية عند توصيله إرسال أشعة شفافة بإمكانها اختراق مواد كالخشب أو الزجاج. فانتشر صدى هذا الاكتشاف سريعًا ورفع معنويات كثيرٍ من الباحثين، في حين أن كثيرًا من المشككين أكدوا أن أشعة X ستكون القاضية على الجنس البشري، أما المتحمسين لها فقد قالوا بأنها ستساعد في معالجة العُمي. بعضهم بَلُهَ عقله واعتقد أنه بها سيستطيع إيصال رسوم توضيحية بشكل مباشر للدماغ، وكل ذلك ذكره كليفورد بيكوفر في كتابه.
وعلى أية حال، فكل عاقل يعي فوائد هذه الأشعة الجمى، لكنها وككثير من الأمور، تستحوذ جانبًا مظلمًا. ففي 1926 قام عالم الأحياء الأمريكي هيرمان مولر بإثبات أن التعرض المفرط لهذه الأشعة الكهرومغناطيسية قد ينتج طفرات في الخلايا.
سِرِنْديبْيَة علمية أخرى –بيد أنها بدون أثر معاكس– هي اكتشاف اختبار فعال للكشف عن سرطان عنق الرحم. فيومئ د. ساتياغو دومينغو رئيس قسم الأورام النسائية في مستشفى La Fe ببلنسيا (إسبانيا) قائلًا: «مسحة عنق الرحم أو لطاخة بابا نيكولاو هي من أقل التجارب الطبية تكلفة ومن أكثرها إنقاذًا للنساء، فقد قمنا عن طريقها بالوقاية من السرطان أولًا والكشف السريع عنه في مراحله الأولى، في حينٍ كان اكتشاف المرض فيه لا يتم إلا بعد تطوره إلى مراحل متقدمة».
وعليه، فإن غالب الأدوية والتقنيات التي تم اكتشافها عن طريق الصدفة كانت «حصيلة جهدِ باحثين أضنتهم السنوات، والذين حظوا بمصادفة سعيدة أثناء العمل في مختبراتهم، حيث إننا أمام أشخاص ذوي إمكانيات علمية غير طبيعية، هم بعيدون بذلك عن العوام» كما يشير إلى ذلك البروفيسور فرانثيسكو ثراغوثا عميد كلية الطب في جامعة ألكلا دي إينارس في إسبانيا.
يذكر د. ثراغوثا كذلك العالِمَ البريطاني ألكسندر فليمينغ كأكبر مثالٍ لحياة أرهنت نفسها للعلم والبحث. ففي 1928 قام باكتشاف البنسيلين أثناء دراسته لفيروس الإنفلونزا، عندما أراد التخلص من (أطباق بتري) المحتوية على بكتريا المكورات العنقودية الذهبية فلاحظ أن هذه الأطباق أودعت طبقة من العفن تسببت في منع نمو البكتريا حولها. فاستخلص أن هذا العفن يفرز مادة كابحة للنمو البكتيري. قام بعدها بتنقيح العفن النقي فوجده من جنس البنيسيليوم.
اكتشافه لم ينل كثيرًا من الانتباه حتى قُبَيل الحرب العالمية الثانية، عندما قام الكيميائيان إيرنست بوريس تشاين ووالتر فلوري بإعادة الأبحاث وتطوير التطبيقات الإكلينيكية الأولى للبنسيلين، بُنِيَت حينها أركان عصرِ المضادات الحيوية ومن خلالها استُطيعَ التغلب على أمراض قديمة كالسل ومرض السفلس، واستُخدِمت أيضًا في معالجة مصابي الحرب وجريحيها.
في 1945 عندما فاز الثلاثة بجائزة نوبل، قلل فليمينغ من شأنه قائلًا: «فضلي الوحيد هو أني لم أتجاهل طبقة العفن تلك، فقد يجد الشخص أحيانًا شيئًا لم يكن باحثًا عنه».
ولا ننسى بلا شك ما قام به علماء المسلمين على مدى التاريخ من أبحاث وتجارب واكتشافات كانت الساعد الأيمن في تطوير وبناء العلوم بشتى فروعها لاسيما الطبية منها، فهذا ابن سينا يضع أسس علم التخدير ويسميه المرقد، كما يقوم بإجراء عملياتٍ لاستئصال الأورام وجراحة الأعصاب المقطوعة، ناهيك عن كونه أول من وضع غلافًا للأدوية مكونًا من أملاح الذهب والفضة، ويعتبر من أوائل من أسسوا فكرة الجلفانومتر لتحديد سرعة خفقان القلب.
وكذلك الرازي وهو يصنع أول خيوط للجراحة، وأول من يخترع حقنًا طبيةً ويسميها الزراقة، وأول من يدرس البيئة الصحية المناسبة لإنشاء المشافي، وأول من يؤسس نظام الفحص السريري وبرنامج الحمية للمرضى ونظام العزل الطبي.
وابن زهر الأندلسي وكتابه (إصلاح الأجساد والأنفاس) شارحًا فيه ماهية الميكروب، وعز الدين الجلدكي واستخدامه الكمامات أثناء علاج المرضى لأول مرة في تاريخ الطب وشرحه للقلويات والحوامض في كتابه “نهاية الطب”، وابن أسلم الغافقي وإزالته للماء الأزرق من العين في أول جراحة من هذا الطراز، والزهراوي وإبداعه في جراحة الأوعية الدموية وخياطة الشرايين.
ولمن أراد الاستزادة عن إنجازات علماء المسلمين فليرجع الى كتاب (الحاوي في الطب) و(سر الأسرار) و(الطب المنصوري) و(التصريف) وغيرها الآلاف المؤلفة من مؤلفات الأفذاذ الذي نبغوا في جميع المجالات بتشجيع ودعم ورعاية.
يقول الحق سبحانه: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (العنكبوت 20).
والحمد لله رب العالمين.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست