كانت الساعة قد تخطت الثامنة مساءً يوم توجهت إلى مقهى أبو علي لأقبس بعض نوره وأتواصل مع العالم الذي لا يرانا ولكننا نراه، من بداية الحي الغارق في الظلام كان الشيء الوحيد المميز هو الملامح المتفاجئة، أو الواجمة أو المتصنعة للحزن، أو حتى تلك الغارقة في الضجر، جميعها تلتمع أمام الأضواء الخافتة أمام شاشات الهواتف الذكية.

غريب هذا العالم! كل شيء يمكنه أن يستمر ويتوقف في نفس الوقت! قلت لمصطفى صديقي الذي لم يمت حتى الآن، مثلي تمامًا، ابتسم وهو يغير صورة البروفايل ويتضامن مع ضحايا فرنسا، وهمس بصوت بارد: حتى في فرنسا عملوها أولاد الـ…
طلبنا كوبي شاي، بدأ البرد يأكل عظامنا، يأكل المسامير التي في فخذي الأيمن، لم يلتئم الجرح، ولن يلتئم أمام الإمكانات الطبية الشحيحة في جو الحرب هذا.

كان جرحي يدفعني للموت، لكني لم أمت تمامًا مثل الأحلام العربية، سخر مني مصطفى ويسمعني أتمتم بتلك الكلمات، سألني بلكنة اعتراضية: لماذا لم تغير صورة البروفايل؟! ضحكت بسخرية وأشرت إلى قدمي.

لم يفهم صديقي، أضطررت لاستخدام الكلمات حتى أوضح له قصدي أكثر، لن أغير صورة البروفايل للعلم الفرنسي حتى يغير عمنا زمبرك صورته الشخصية بصورة فخذي الذي تمزقه المسامير الجراحية!

أطرق قليلًا، إيييه أين أنت وأين عمنا زمبرك، سمعنا النادل واقترب منا متسائلًا: من هو عمنا زمبرك؟! طبعًا أبو عكوش النادل الجديد بلقبه الجديد لن يتمكن من معرفة من هو عمنا زمبرك، على الرغم من أنه تمكن من حفظ أسماء بوتين وهولاند وتشكيلة الحكومة الجديدة في بلاد الواق واق، لن يتمكن من ذلك أنا متأكد قال لي مصطفى بلكنة ساخرة قبل أن يلتفت كلية إلى أبو عكوش ليشرح له من هو عمنا زمبرك.

فتح شاشة الهاتف، تمكنت من رؤية نفاد البطارية، هو أيضًا لاحظ ذلك ومع ذلك لم يتوقف عن تشغيل الإضاءة كامل وهو يفتح بواسطة محرك البحث صورة كبيرة لمارك زوكربيرج مالك شركة فيس بوك، أكثر مشتركيها من منطقة ما يسمى بالشرق الأوسط، حيث تغرق في الحروب والدماء منذ أكثر من خمسة أعوام لكنه لم يتنبه لتلك الدماء أبدًا، كانت دماء مزيفة وسمراء، ربما لها رائحة كريهة تتعرف عليها الترانزستورات الخاصة بشركته الكبيرة، هو لم يتنبه إلى للخطر القادم من ذلك المكان، تأملت صورته الخاصة وهي مغطاة بالعلم الفرنسي، لم أبتسم ساخرًا هذه المرة، ولم أشعر بالتشفي.

لكني شعرت بالغيظ من الازدواجية التي يتحرك بها العالم، سأل أبو عكوش ولماذا تسمونه زمبرك،رفع مصطفى حاجبيه وفكر قليلًا ثم قال: هكذا يبدو اسمه سهلًا للنطق، وخفيفًا ومسليًّا.

غرق الاثنان في الضحك على اسم عمنا زمبرك، بينما غطست أنا في التفاصيل التي لا يدركها لا زوكربيرج ولا مصطفى ولا أبوعكوش، تلك التفاصيل التي لا يشعر بها إلا من كان جزء من جسده يتعفن أمام نظره ولا يملك سوى الانتظار للموت، ذلك الضيف الثقيل الذي لم يقبل قهوتنا العربية، لم يقبل كرمنا الحاتمي أصر على أن يأخذنا معه ليكرمنا بطريقته!

أشرت إلى أبو عكوش ليعطيني كوب شاي، مصطفى يقنعني بأننا يجب أن نعلق ذلك العلم لننفي عن أنفسنا تهمة الإرهاب، لساني يحترق بالشاي الذي أحضره أبو عكوش، أغرق في تلك التفاصيل لأفر من ألم البرد والمسامير في فخذي الأيمن دون فائدة! وأنا أتأمل الظلام والملامح المتوهجة تمنيت لو أن الجميع يغير صورته، عليهم ألا يضعوا أي علم، أي صورة.

عليهم أن يعلقوا صورة قدمي المتعفنة، ربما إن فعلوا ذلك تذكر العالم  المزدوج  أن على هذه الأرض ألف جرح لا يتوقف عن النزيف بسبب تناقضه.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد