ثمة إشكال سياسي ماثل وجليّ خلال الفترة الانتقالية بالسودان كنتاج لأزمة متوارثة من خلال بنية سياسيةً مفككةً وغير متماسكة على مدى سنوات طويلة منذ الوهله الأولى ما قبل الاستقلال، واستمرت تعقيدات الإشكال السياسي بُعيد الاستقلال تتفاقم رويدًا رويدًا على امتداد فترات تعاقب الحكومات المختلفة التي مر بها السودان، هو ما أشار إليه البروفسيور عبد الله الطيب: ونقده لتلك النخبه قائلًا: «الذين لبسوا ثوب السلطات وأضاعوا الفضائل التي ورثناها من المستعمر»، مشيرًا إلى البنية التحتية والاقتصادية والنظام الإداري الذي ورثناه من المستعمر آنذاك وضياعها جراء الخوض في عراك سياسي محتدم غير مؤطر ببرنامج سياسي سوداني عقب خروج المستعمر بين النخب آنذاك.

منذ تلك الحقبة توالت هذه الديمومة من الإشكالات السياسية؛ مما لم تؤسس لرؤية وطنية تستشرف مستقبل السودان ما بعد الاستقلال عبر تقديم سياقات بديلة للحكم وإدارة الموارد والسعي إلى إحداث فعلٍ تنموي واضح المعالم.

فنحن نشهد الفترة الانتقالية الخامسة وفق تصور دكتور عطا البطحاني من تاريخ السودان الحديث، فالحالة الراهنة من عُمر الفترة الانتقالية وبعد عام ونيف من تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي بات يتَكشّف احتقان الموقف السياسي ومساراته دون وجود لبنة تُفضيّ إلى حوار أو وجود رؤية للحل تقود لِلملمة الشَعث والشتات وتحفظ ماء وجه النادي السياسي السوداني الذي رفد العالم بتجارب أبنائه.

إلا أنه عجز عن تقديم تصور لنفسه الحالة السودانية ما يضعه في مصاف الدول القادرة على تجاوز إشكالاتها والمُضِي نحو رؤية خَلّاقة تتوارثها الأجيال المختلفة جيل تلو جيل.

الإشكال السياسي ومسبباته

طَغىّ الصراع السياسي على الطريقة التي تدار بها الحكم خلال الفترة الانتقالية وهو ما يشير إلى انقسام من نوع آخر للمكونات السياسية مما زاد الأمر تعقيدًا بارتباط تلك المكونات بمسارات خارجية ما يمكن توصيفه بصورة أدق بمجموعات سياسية جامدة غير فاعلة سياسيًا، وغير منتجة، تلقي بأعبائها ومشاكلها في تأزيم استقرار البنية الاقتصادية والاجتماعية وتوجه عن طريق الوصايا خارجيًا وارتهانها لتلك الوصايا؛ مما قاد إلى تشكُل أزمات متلاحقة ومتتابعة في الحياة العامة خلال الفترة الانتقالية عقب ثورة تغيير كانت إحدى مسبباته هذا التراكم من الإشكال البنيوي في الحياة العامة الإشكال الاقتصادي دون أن يكون هنالك تأطير من التحالف السياسي المُمسك بمؤسسات الحكم الانتقالي لحل إشكال الراهن السياسي والسعي لمصالحة تصلح حال البنية السياسية وبدورها ما تنعكس على البنية الاقتصادية والاجتماعية فتوالت ذات الإشكالات والتي وضعت السودان خلال الفترة الانتقالية أمام مؤشرات اختلال كلي ربما هي الأولى من نوعها من خلال التردي والتعنيف السياسي الذي نشهده وتمظهراته على البنية الاقتصادية والاجتماعية، دون وجود حل يلوح في الأفق.

سياسات غير متوازنة

لعدم استقرار البنية السياسية والاجتماعية تشكلت تمظهرات متناقصة ومتراجعه في مؤشرات الاقتصاد السوداني الكلية ومفاصله المختلفة خلال الفترة الانتقالية بتبني سياسات صندوق النقد الدولي، وإنفاذها فهي سياسات اقتصادية متعنته ومحجمه من خلال إجراءاتها في تعاطيها مع الاقتصادات التي يلازمها عدم استقرار سياسي النموزج السوداني، فبالتالي ما قادت لتفاقم الأزمة الاقتصادية بأكثر من ذي قبل، وارتفع صوت النادبين الرافضين لسياسات حكومة ما بعد الثورة التي تبنت سياسات تحريرية بامتياز تركت المواطن لوحده أمام الغلاء المستفحل من جانب، والتعاطي الرخو مع تفاعلات البنية الاجتماعية من جانب آخر، فإذا استمرت هذه الحالة دون التعاطي بجدية تجاه تلك القضايا ربما يؤدي إلى خيارات عصية على المواطن السوداني الذي يمكن أن يلجأ إلى خيار الضغط عبر الشارع وصولًا إلى صناديق الاقتراع مبكرًا، لكن التحالف المُمسك وحلفاءه يسعون لإطالة الفترة الانتقالية، وبالتالي ينذر بتعقيد الإشكال السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي .

السياسات المتخذة في معالجة الإشكال الاقتصادي

منذ البدايات الأولى عند البدء في تبني وإنفاذ سياسات التكييف الهيكلي المتعلقة بمعالجة المشكلة الاقتصادية بالسودان عقب تشكيل أول حكومة ما بعد ثورة ديسمبر بدأت في التعاطي مع البنية الاقتصادية المهترية، دون تلمس ومعرفة كاملة لضرورات التعامل مع هذا الوضع الذي يمكن أن أسميه الوضع الكارثي للبنية الاقتصادية، فبالتالي ما يمكن قراءته للسياسات الاقتصادية لحكومة ما بعد الثورة أنها غير مؤطره محددة في «فريم» مكتمل، أو أنموذج لسياسات إصلاح اقتصادي.

حكومة ما بعد الثورة تريد أن ترسل برقية في صندوق مؤسسات التمويل الدولية بحسن النوايا للبدء في تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي، فالسمات العامة لملامح ما تتبناه حكومة ما بعد الثورة هو التحرير الاقتصادي دون اتباع المسارات والخطوات المتعلقة بالتحرير الاقتصادي، ومن ثم الشروع في انتهاج سياسة سعر الصرف المرن المدار، التعويم اسميًا بدأت في إنفاذه منذ العام 2020، ولكن بطريقة غير مباشرة اكتملت حلقات الإجراءات المتبعة للتعويم ما بعد تشكيل حكومة الثورة الثانية، فالخطوة أشبه بالعلاج الخطر حال فشله، فسيؤدي إلى نتائج ستخلق واقع لمشكلات اقتصادية مركبة ومعقده، فخطورة التعويم تترتب عليها توفير ضمانات من النقد الأجنبي على أقل تقدير حوالي خمسة إلى 8 مليار دولار، فدائمًا ما تسعى الحكومة عقب إنفاذ هذه السياسة لجزب مدخرات المغتربين للجهاز المصرفي والتي تقدر بستة إلى 8 مليار دولار دون وضع سياسات مشجعة ومحفزة لهم، فالموقف عسير، وسيظل هنالك سؤال مركزي يطرحه الشارع في محاولة من الحكومة الإجابة عنه، وهو: هل حكومة ما بعد الثورة ستفي بالتزم معالجة الوضع الاقتصادي الراهن، وتهئيته، بما يعزز من فرص الانتقال الديمقراطي خلال المرحلة المقبلة.

دور جيل الثورة في توجيه مسار الانتقال

برزت مقدرات هذا الجيل، جيل الثورة، من خلال حراكه السابق أثناء الثورة وبعدها في إحداث مؤثرات مختلفة استغلتها الأحزاب السياسية في دعم وتعزيز مواقفها ابتغاء خلق موقع يضمن لها النصيب من قسمة السلطة، فينبغي على جيل الثورة أن يعي بأدواره المختلفة عبر استغلال جميع الأدوات التي تمكنه من توجيه مسار الانتقال الديمقراطي بصورة صحيحة من خلال حلحلة معضلة جذور الإشكال الاقتصادي والاجتماعي الراهن، والسعي إلى تأسيس لبنات تُفضيِ لتهيئة مَقدرات هذا الجيل بأن يلعب أدوارًا فاعلة خلال المرحلة الانتقالية والمرحلة التي تعقبها.

بات هنالك أمل مرتجى من هذا الجيل عبر لعبه دورًا أساسيًا ومحوريًا في الفترة الانتقالية إلى جانب عمل الأحزاب السياسية ذات الإرادة الوطنية هو ما يعزز من فرص الانتقال الديمقراطي ويسعى إلى تذليل تحديات الانتقال الديمقراطي الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد