عرضنا في الثلاث مقالات السابقة
6 مظاهر من أشكال الاحتيال الاقتصادي التي رصدها عالم الاقتصاد “جون كينيث جالبريث 1908-2006” في كتابه “اقتصاد الاحتيال البريء” الصادر في عام 2004، وسنعرض في هذا المقال الرابع والأخير، آخر مظهرين من مظاهر هذا الاحتيال الاقتصادي “غير البريء”.
-
الاحتيال السابع “عالم المال”
في العالم الاقتصادي وبالأخص العالم المالي (الممثَل في البنوك ومؤسسات التمويل وأسواق الأسهم والسندات وصناديق الاستثمار وشركات الاستشارات المالية) أصبح التنبؤ بالمجهول وظيفة يُعتز بها وأساسًا لمهنة مربحة تدر عائدًا كبيرًا، هذا التنبؤ الذي يكون على مستوى الاقتصاد الكلي أو على مستوى المشروع الفردي، فعلى مستوى المشروع الفردي يكون التنبؤ بمستقبل المشروع من حيث الأرباح والخسائر المستقبلية وأسعار الأسهم والسندات المستقبلية، أما على مستوى الاقتصاد الكلي فيكون التنبؤ بالأداء الاقتصادي المستقبلي أو بحدوث الأزمات الاقتصادية والانتقال من الرواج والازدهار إلى الانكماش والكساد والعكس، ويُعتقد أن الرجال والنساء الذين يضطلعون بهذا العمل على علم بالمجهول، ولأن ما يتم التنبؤ به هو ما يرغب الآخرون في سماعه من ربح أو عائد مستقبلي فإن هذه الرغبة والأمل تحجب رؤية الواقع.
أما الواقع الجلي والذي لا يمكن إغفاله – والمتجاهل تمامًا – أن الأداء الاقتصادي المستقبلي على مستوى الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي (بالنسبة للمنشأة الفردية) أو على مستوى صناعة معينة لا يمكن التكهن به وليس ثمة معرفة جازمة به، حيث إن كل هذه التنبؤات تواجَه بتضافر متنوع من الإجراءات الحكومية المتقلقلة والسلوك الكوربورتي (سلوك الكوربوريشنCorporation) الفردي المجهول، وعلى مستوى أكبر احتمالات الحرب والسلام، وإضافة إلى ذلك الابتكار التكنولوجي (تطور وسائل الإنتاج) وغير التكنولوجي (العلمي البحت)، وتوجهات وتفضيلات المستهلكين المستقبلية، وتغير حركة الصادرات والواردات والآثار الناتجة عن ذلك، وتغير حركات رأس المال وآثاره، ورد الفعل الحكومي والكوربورتي على كل ما سبق.
وفي سبيل إقناع الآخرين ببصيرتهم النافذة يقوم أولئك الذين يوظَفون أو يوظِفون أنفسهم للكشف عن الأداء الاقتصادي المستقبلي باستخدام أدوات مثل الاستعراض الوافر للرسوم البيانية والمعادلات الرياضية، بالإضافة إلى إظهارهم للثقة بالنفس والخبرة عن طريق ذكر حالات نجاح تنبؤاتهم العرضي، وهكذا يتم ويحدث الاحتيال.
-
الاحتيال الثامن “الهروب الأنيق من الواقع”
إن النظام الاقتصادي المعاصر غير قابل للتنبؤ به من حيث حركته من السنين السمان إلى السنين العجاف؛ فالازدهار والرواج يفضيان في النهاية إلى انخفاض في الإنتاج وارتفاع في البطالة وتقلص في الدخول وتدني في الأسعار، ثم مع الزمن يأتي الانتعاش وزيادة الوظائف والإيرادات الأعظم، كل هذا فيما يسمى بالدورة الاقتصادية.
ويعتبر نظام الاحتياطي الفيدرالي – البنك المركزي في الولايات المتحدة الأمريكية الذي أُنشأ عام 1913 – المؤسسة المنوط بها علاج الانكماش والبطالة وخطر التضخم أي معالجة أهم الظواهر الاقتصادية غير المرغوب فيها، وفي هذه المؤسسة وقائدها يتمثل رد فعل مؤسسة هامة ورئيسية من مؤسسات الدولة الاقتصادية (مؤسسة السلطة النقدية، والمسئولة عن خلق وإدارة النقد والائتمان)، يتمثل رد الفعل هذا في مجموعة من السياسات والإجراءات الاقتصادية، وهذه الإجراءات يوجد حولها اتفاق عام وقبول من جانب كافة الأطراف المعنية ومن العالم المالي، وأيضًا تكون هذه الإجراءات جيدة التنظيم والرقابة، وبالتالي تكون سمعتها طيبة جدًا ويُعتقَد أنها أحسن الإجراءات الاقتصادية المتخذة لمواجهة هذه الظواهر، ثم يتضح عدم فاعليتها حيث إنها لا تُحقِق ما يُفتَرض أن تُحقِقه، فالأزمات ودورات الركود والرواج لا كابح لهم والتضخم والبطالة لا يتم علاجهما، وهنا يكمن شكل هام من أشكال الاحتيال.
ويتمثل جوهر هذا الاحتيال في الاعتقاد بأن المحدد الرئيسي لعلاج هذه الظواهر هو سعر الفائدة (أو معدل الفائدة)، ففي حالة الانكماش يقوم البنك المركزي بخفض سعر الفائدة، واستنادًا إلى ذلك تقوم البنوك الأعضاء (البنوك المنضوية تحت مظلته) بتطبيق السعر المنخفض على عملائها، ومن ثم تشجيعهم على الاقتراض، وعلى إثر ذلك يواصل المنتجون إنتاج السلع والخدمات ويشترون اللازم من مصانع أصبحوا الآن قادرين على شرائها، ثم يزيد الاستهلاك الذي باتت تكلفته أقل بسبب القروض الأرخص (قروض التجزئة، أو القروض الاستهلاكية)، وتحدث استجابة من الاقتصاد وينتهي الانكماش… هكذا يُعتَقد.
وتكمن المشكلة في أن هذه العملية المنطقية التي تحظى بالقبول العام توجد فقط في العقيدة الاقتصادية وليس في الحياة العملية، حيث إنه في الواقع العملي تلجأ منشآت الأعمال إلى الاقتراض عندما تكون باستطاعتها أن تحقق أرباحًا وليس بسبب انخفاض أسعار الفائدة، وبالتالي فإنه في حالة الانكماش والركود تصبح تدنية تكاليف الإنتاج بتدنية الفائدة غير ذات جدوى؛ حيث إنه لن تتم عملية البيع بسبب وجود انخفاض شديد في الطلب – لن تستطع قروض الاستهلاك الفردية تعويضه، بل يحتاج إلى إجراء أكثر جذرية ومركزية بكثير لتعويضه – مما يعني انخفاضًا شديدًا في الأرباح أو عدم تحقيق أرباح من الأساس، أي أن المحدد الرئيسي في توجيه سلوك المنتجين هو إمكانية وجود الطلب (أي الطلب المُزوّد بالقوة الشرائية) أي إمكانية تحقيق عملية البيع في الأساس وبالتالي وجود إمكانية لتحقيق أرباح، وبالتالي يكون العلاج الفاعل للانكماش هو تنفيذ إجراء أكثر جذرية ومركزية ومباشرة، بتدخل الدولة بمؤسساتها بضخ مبالغ كبيرة لتعويض العجز الكبير الحادث في الطلب، لتسيير دورة الإنتاج من جديد.
ومن الأمثلة التاريخية على مواقف الاحتياط الفيدرالي الأمريكي التي لم تحقق جدوى، في الحرب العالمية الأولى تضاعفت الأسعار في السنتين اللتين خاضت الولايات المتحدة فيهما الحرب ولم يأت علاج من البنك المركزي، ثم بإسلوب كارثي حدثت مضاربة جامحة في وول ستريت كان أثرها عميق التدمير ولم يحدث كبح فاعل من جانب الاحتياط الفيدرالي، ثم لعقد من الزمن ساد كساد عظيم ولم يأت إجراء شاف من الاحتياط الفيدرالي.
إن استمرار إيماننا بدور فاعل لنظام الاحتياط الفيدرالي منذ نشأته وحتى الآن ما هو إلا هروب أنيق من الواقع.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست