تسللت الأستاذة عطيات في سكون الليل إلى أسوار المنزل الخارجية ومن ثم قطعت أسلاك الإنترنت عالية السرعة التي تمد بيتها، وحطمت جهاز الراوتر أبيض اللون، إنه يومض إضاءات متقطعة يذكرها بعيون القطط الليلية السوداء. أخذت كل الأجهزة الذكية التي في حوزة ابنتيها وابنها وكذلك جهاز اللاب توب المنزلي والذي يجثم على المكتب أسود اللون كقطعة أثاث عتيقة.
وضعت الأجهزة في كيس كبير من أكياس القمامة السوداء البلاستيكية السميكة ونزلت إلى حجرة البدروم والتي تستخدمها مخزنًا للأشياء القديمة. وضعت الكيس داخل صندوق خشبي عتيق وحرصت على أن تضع فوقه أكوامًا من الكتب القديمة، وأخفت ملامح الأمر برمته، ثم اتجهت إلى الجهة الأخرى من الغرفة وأزاحت ستارًا قماشيًا أبيض اللون وقد تغير لونه إلى اللون البني من شدة تراكم الغبار والأتربة عليه وظهر من خلفه جهاز عتيق لتلفزيون قديم من طراز الخمسينيات وهو ما يعرف بالتلفزيون الأبيض والأسود.
استيقظ الأبناء فجاة على ضجيج الأم وهى تنفض التراب عن ذلك الكائن العتيق وتسللت ذرات الغبار إلى أنوفهم فانتابتهم نوبة سعال قصيرة، وبدا أن ذلك الجهاز هو سيد الموقف في المنزل وتسللت صورته التي تحمل اللونين الأبيض والأسود بدرجاتهما المتابينة إلى عيونهم فأذهلتهم وتركتهم أكثر حيرة من ذي قبل.
والأستاذة عطيات هي تلك الأم التقليدية التي تعيش بكل كيانها في موروثات الماضي من طرق وأساليب وأدوات تعليم وتعلم، فهي تمارس دور المعلمة تمامًا كما كانت تعلمها أمها منذ نصف قرن. ذات الصوت ونفس الكلمات وحتى التعليمات والتوجيهات بذات النبرة ودرجة الصوت.
أما عن أدوات التعلم التي تستخدمها الأستاذة عطيات ففي معظمها تتباين ألوانها بين الأبيض والأسود، فالأوراق البيضاء المكتوبة بالخطوط السوداء هي وسيلة أساسية ووحيدة ومقدسة في تعليم أبنائها ولا يمكن أن تتنازل عنها أبدًا، حتى أن الكتب المدرسية الملونة سرعان ما يتم استبدالها بمذكرات وملخصات من ذات الرداء الأبيض والكلمات السوداء. ودائمًا تفتخر الأستاذة عطيات بأن أمها هي أول من تعلم بقريتهم الصغيرة إذ كانت تذهب إلى مدرسة المدينة الابتدائية حيث المقاعد الخشبية والسبورة السوداء التي يكتب عليها بأصابع الطباشير البيضاء.
وتذكر أيضًا كيف تطور الأمر وظهرت الطباشير الطبية ثم الطباشير الملونة، والأمر الآن لا يكاد يختلف كثيرًا، لقد استبدلت بالسبورة السوداء السبورة البيضاء، واستبدلت بالطباشير أقلام الكتابة الملونة، وإن ظلت الفصول كما هي وظلت المدرسة كما هي مع اختلاف الألوان والأسماء إلى جانب أجيال الطلاب والمعلمين الذين تغيروا على ذات المدرسة.
يا إلهي كيف ارتضينا أن نتطور في كل شيء ونجاري التكنولوجيا في كل نواحي حياتنا ولكن ظللنا نعلم أبناءنا كما علمنا آباؤنا وكما علمهم أجدادنا. هل أصبح التعليم وراثيًا محفورًا في جينات وقوالب ثابتة نرفض أن تتغير أو تتبدل. تبدلت سيارتنا وأجهزة التلفاز في بيوتنا وتبدلت أجهزة الهاتف من ثابت إلى نقال إلى ذكي إلى… إلى…
أصبحنا نتغير تغيرًا متسارعًا في كل نواحي حياتنا حتى الأطعمة وأسلوب الأكل تغير وتبدل كثيرًا، بيد أن التعليم وقف مكانه كتمثال أثري يزداد قيمة في قدمه ويزداد مكانة في الحفاظ عليه حتى «يوتيوب» الذي يقضي أولادنا جل أوقاتهم متنقلين بين مقاطع فيديو المقالب والطرائف والعجائب والمصارعة والمسلسلات، عجزنا عن توظيفه في خدمة التعلم الذاتي، وعن جعله وسيلة مساعدة في العملية التربوية والتعليمية. لست أدري كم الحزن الذي أشعر به وأنا أرى أمهات اليوم وهم يجلدون ظهور أطفالهم بسياط القهر والعنف من أجل دفعهم في سباق التعليم كالخيول في مضمار السباق. ولا يستطيعون أن يتطوروا ويطوروا أنفسهم ويتقنوا مهارات التعليم النشط والتفاعلي.
إن تعليمًا متمحورًا حول الدرجات والعلامات والتقديرات، هو تعليم فاشل قاصر يبني خريجًا أجوف وعاملًا محشوًا بقدر من المعلومات ومفتقدًا للمهارات والإبداعات، يعلمه اللهاث خلف الدرجات وأن ينتظر دائمًا مقابلًا لعلمه وعمله، فهو إعلاء لمبدأ المنفعة والمقابل في كل شيء.
ثم المتأمل لحال بلد كمصر مثلًا يجد أن شوارعها قد ملئت بملايين الطلاب، يسيرون في جماعات وقطعان وقد دفعوا دفعًا إلى الجري في الشوارع لاهثين خلف الدروس الخصوصية التي تدمي جيوب آبائهم وتفرغ عقولهم من الإبداع والابتكار.
وأي معرفة يملكها ذلك المدرس القابع في بيته كالصنم يقصده الطلاب للتبرك والاستزادة من علمه. إن معابد الدروس الخصوصية والتي تحولت إلى مصادر للثراء الفاحش لمن يشرفون عيها هي في الحقيقه تبيع الوهم وترضي ملايين الآباء والأمهات الذين يصرون على التبرك بقداستها الكاذبة في سبيل صنع مستقبل لأبنائهم
لقد امتلأت بحار الإنترنت بكنوز المعرفة القيمة المتخصصة في كل المجالات وشتى العلوم.. وقد أصبحت العلوم في متناول ضغطة زر أو لمسة إصبع.
والفضاء الإلكتروني الآن لديه معلمون أكفاء وعلى أعلى مستوى وفي متناول اليد يقومون بشرح المقررات التعليمية بطريقة إبداعية سهلة ومؤثرة ولديهم من العلم ما يفوق أقرانهم القابعين في مراكز الدروس الخصوصية.
أنا هنا أخاطب الآباء والأمهات الذين يملكون بكل تأكيد نية خالصة في تعليم أبنائهم وعزيمة صادقة في صنع مستقبل مشرق لهم، إيها الآباء والأمهات إن التغير سمة العصر والتجديد هو محدد البقاء فإما التجدد والتطور وإما الانقراض والاختفاء. إن التعليم يجب أن يتطور كما تطورت حياتنا ويجب أن يتغير كما تغيرت الدنيا حولنا ويجب أن يستفاد من التقدم التكنولوجي والمعلوماتي استفادة كبيرة وواسعة، كما أن التعليم الذاتي والإلكتروني هو الآن واقع ومستقبل وبديل قوي لصنع مستقبل أفضل، وإن «يوتيوب» ومواقع التعليم الإلكتروني يقوم عليها متخصصون أكاديميون وتربيون من ذوي المكانة المرموقة والاعتماد الأكاديمي والتطبيقي.
إن المربي بغير علم يضر أكثر مما ينفع وإن الحرص والنية الخالصة بغير إدراك للكيفية الصحيحة هي السقوط والموت والتلاشي أو هكذا أرى القضية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست