“وظيفة التعليم تتمثّل في تَدريس كيفية التفكير بشكل مركّز ونَقدي للأشخاص، لذا فإن هدف التعليم الحقيقي هو الفهم والتعقّل إلى جانب تكوين الشخصية”. مارتن لوثر كينج
(1)
لم تَبهرني العاصمة الفنلندية هلسنكي عندما حَللت ضيفًا عليها للمرة الأولى قبل ما يقرب من خمسة أعوام؛ فكنت أراها صغيرة مقارنة بالعاصمة السويدية ستوكهولم، كما أنني تعرّضت وعائلتي لتعليقات عنصرية من بعض أهلها أثّرت حتمًا في تكوين رأي ما تجاهها، ولكنني سرعان ما تغاضيت عن كل هذا عندما رأيت كارل نوردنسترنج!
كان كارل نوردنسترنج أستاذًا فخريًا بجامعة تامبرا الفنلندية، ولكن أولى المحاضرات التي حَضرتها له كانت مع زوجته الأكاديمية بدورها بجامعة هلسنكي، ضمن برنامج أكاديمي تعاوني للدراسات الإعلامية بين جَامعتي السويدية أوريبرو وجامعتيْ هلسنكي وتامبرا الفنلنديتين. ولم أعرف نوردنسترنج شخصيًا من قبل سوى عبر عشرات الكُتب والمراجع والأبحاث العلمية التي كتبها، فلم يَخلُ كتاب يتعلّق بالإعلام والتنمية من اسمه.
وعندما رأيته يلقي علينا محاضرته للمرة الأولى بحماس شاب في العشرينات من عمره، رغم هيئته الطاعنة في السن، تعجبت قليلاً، وإن لم يَكن سوى لبرهة زمنية قصيرة، فسبق وأن رأيت أساتذة مصريين على درجة كبيرة من العلم والمكانة العلمية الرفيعة يُحاضرون بشغف كبير بجامعة القاهرة، مثل أستاذي العزيز رحمه الله عبد العزيز حمودة. ولكن، ما عَلق بذهني عن نوردنسترنج إلى يومنا هذا، كان عندما رفعت يدي أثناء المحاضرة للاستفسار عن أمر ما، ولم أكن أعرف وقتذاك كيف سأدعو نوردنسترنج: هل أناديه بأستاذ أم بروفسور أم سيدي أم ماذا، وعندما وصلت حيرتي مداها قررت أن أدعوه بروفسورًا والسلام، إيمانًا مني بقامته العلمية الرفيعة!
أذهلني نوردنسترنج عندما قَطع سؤالي من منتصفه، ليجعلني أو يجبرني في حقيقة الأمر على مناداته باسمه الأول، كارل، فهكذا هي التقاليد في فنلندا: الأساتذة مهما كانت درجتهم العلمية يتم مناداتهم بأسمائهم الأولى لإزالة الجليد بين علاقة المُدرس أو الأستاذ من جهة وتلاميذه أو طلابه من جهة أخرى!
لقد “نَسف” كارل أولى القواعد الأساسية التي نَعرفها في جامعاتنا المصونة، وهي خَلع لقب دكتور على كل معيد أو محاضر تَخرج حديثًا، إيمانًا بأبيات أحمد شوقي الخالدة: قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا!
(2)
إذا ما خرج علينا أي وزير تعليم مصري بقرار ثوري يَختلف جملة وتفصيلاً عن القرارات التالية: جعل الثانوية العامة سنة واحدة عوضًا عن سنتين أو إعادة احتساب درجات أعمال السنة أو حتى إلغاء السنة السادسة الابتدائية، فسيهاجم بطبيعة الحال من أولياء الأمور والمدرسين وحتى الطلاب أنفسهم!
أما إذا ما خَرج علينا الوزير نفسه بمشروع قرار ينصّ على إلغاء العَمل بالمواد الدراسية والاستعاضة عنها بالمواضيع الدراسية، بمعنى آخر، إلغاء تدريس مادة “التاريخ” لطلاب الثانوية الفندقية مثلاً، وإحلال دروس تتعلّق بمواضيع “الخدمات الفندقية” بدلاً منها؛ تتضمّن بضع عناصر من الرياضيات واللغات – تساعدهم على خدمة الزبائن الأجانب – ومهارات الكتابة والتواصل، فليس بعيدًا أن يعامله القاصي والداني على أنه مريض بالجذام يستوجب الدعاء والشفقة، والابتعاد عنه مخافة أن تنتقل تلك “العدوى” الغريبة إليهم!
وفي حقيقة الأمر، هذا ما فعلته فنلندا مؤخّرًا؛ حيث إن تلك البلد الإسكندنافية الصغيرة التي يَنظر إليها العديد من الدول الأخرى بوصفها قدوة ومثالاً يُحتذى به لتحسين أنظمتهم التعليمية، قرّرت فجأة الاستعانة بطريقة جديدة في التعليم بمدارسها، تستوجب الاستغناء عن النظام “البالي” المتعلّق بتدريس المواد لصالح التدريس بالمواضيع؛ فحاليًا يُمكن للتلاميذ الذين يفضّلون الدراسة الأكاديمية تعلّم مواضيع تتعلّق بشغفهم الدراسي مثل موضوع “الاتحاد الأوروبي”، والذي يتضمّن عناصر دراسية من الاقتصاد والتاريخ – المتعلّق بالدول الأعضاء بالاتحاد – واللغات والجغرافيا!
ليس هذا فحسب، فوفقًا لتقرير نَشرته جريدة الإندبندنت البريطانية مؤخّرًا، ولم يَتم إلقاء الضوء عليه جيدًا في الإعلام المصري والعربي، فإن الطريقة التقليدية للتعلّم مِن تراص الطلاب في صفوف بمقاعدهم بالفصول أمام معلّم يحاول أن يَشرح لهم دَرسًا ما، مآلها إلى زوال بدورها؛ فالطريقة السابقة تعتمد على سلبية الطلاب في العملية التعليمية، وسيتم الاستعاضة عنها بطريقة عمل الطلاب مع بعضهم البعض في مجموعات صغيرة لحل المشاكل بينما يتم تحسين مهارات التواصل لديهم!
أيضًا، وفقًا للمسؤولين الفنلنديين، سيتم تعميم هذه “التجربة الفنلندية” الجديدة بجميع المدارس بالبلاد بحلول عام 2020!
الدرس المستفاد للمسؤولين المصريين: “التجربة الفنلندية” فيها سُم قاتل، ولكن رُب ضارة نافعة!
(3)
قرأت منذ أيام عمود “خط أحمر” للكاتب “سليمان جودة” بجريدة المصري اليوم بعنوان “حامل الماجستير والدكتوراه”، وفيه ينتقد “جودة” فكرة تظاهر العشرات من حاملي درجات الماجستير والدكتوراه أمام مجلس الوزراء في محاولة للحصول على وظيفة حكومية لن يتعدى راتبها الألف جنيه شهريًا في دواوين الحكومة العامة. ويَرى “جودة” أن مثل هؤلاء الحاملين لمثل هذه الدرجات العلمية الرفعية يتميّزون بعقل نابه وقدرات بحثية ممتازة تؤهّلهم للحصول على وظائف مرموقة بجامعات مصرية أو غير مصرية حكومية أو خاصة، ولكن، على ما يبدو فإن الدرجات العلمية المرموقة التي يَحصل عليها البعض من الجامعات المصرية باتت دون المستوى المطلوب، ويُبرهن “جودة” على استنتاجه هذا بأنه عندما كان مسؤولاً عن صفحة الرأي بجريدة الوفد كانت تأتيه مقالات يحمل أصحابها درجة الدكتوراه ولكن مستواها اللغوي رديء جدًا رغم أن اللغة الأم لكاتبي هذه المقالات هي العربية!
وللأسف الشديد، أتّفق تمامًا مع ما قاله “جودة” في عموده “خط أحمر”؛ حيث بات مستوى التعليم المصري يُرثى له، سواء كان حكوميًا أم خاصًا؛ فحتى مع ما يَدفعه المرء لأبنائه من آلاف الجنيهات في تعليم يَظنه “دوليًا”، يَختلف جملة وتفصيلاً عن ذلك الذي يُدرّس في الخارج، رغم أن التكلفة تكاد تكون مقاربة!
أتذكّر زميلة ليّ بإحدى الجامعات الخاصة المرموقة في مصر كانت تكتب رسالتها الأكاديمية لنيل درجة MBA في الإعلام، ووجدت أن المشرف على رسالتها يُحدّد لها معايير للكتابة الأكاديمية تَختلف تمامًا عما يُدرّس في الجامعات الأوروبية جميعها دون استثناء؛ فما يُعد سرقة علمية في الخارج، يُعد أمرًا شائعًا في الجامعات المصرية الخاصة أو الحكومية!
وليس سرًا القول إن جودة التعليم المصري باتت في مرتبة متدنية للغاية؛ ففي التقرير السنوي لعام 2014/2015 عن التنافسية الذي أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي منذ أسابيع قليلة، حلّت مصر في المركز الـ 141 من إجمالي 144 دولة شَملها التقرير في جودة التعليم الأساسي. بمعنى آخر، احتلت مصر المركز الرابع في قاع أسوأ جودة للتعليم الأساسي بين دول العالم. أما عن جودة التعليم العالي بالتقرير نفسه، فحدّث ولا حرج؛ حيث تحتل مصر المركز 141 ذاته، متذيّلة قاع الدول لجهة جودة التعليم العالي!
لُب الموضوع: الارتقاء بالتعليم في مصر لا يقتصر فقط على حذف قصّة العصافير والصقور من كتاب العربي بالصف الثالث الابتدائي لأنها تحضّ على الكراهية، ولكن بنَسف العملية التعليمية من جذورها والتطلّع لتجارب ثورية مثل التجربة الفنلندية، فليس لدينا ما نبكي عليه على أية حال!
(4)
10 أشياء لا تعرفها عن التعليم الفنلندي:
• لا تسبق فنلندا سوى سنغافورة والصين في نتائج طلاب الدول الذين يخضعون لبرنامج تقييم الطالب الدولي PISA وهو اختبار موحّد يُعطَى كل ثلاثة أعوام للطلاب حول العالم لقياس مستواهم التعليمي.
• لا يبدأ الأطفال في فنلندا الانضمام للمدرسة قبل سن السابعة، فضلاً عن أن 97 بالمائة منهم ينضمون لمرحلة ما قبل المدرسة في سن الخامسة.
• إذا كان الأطفال أو الطلاب في الولايات المتحدة الأمريكية يحصلون على فترة راحة من الحصص الدراسية المتواصلة تبلغ في المتوسط 27 دقيقة يوميًا، فإن الطلاب في فنلندا يحصلون على 75 دقيقة يوميًا بواقع 15 دقيقة راحة عقب كل حصّة دراسية!
• هناك عدد قليل جدًا، إن وُجد، من الاختبارات الإلزامية في فنلندا للطلاب قبل الاختبار الوحيد بنهاية العام حتى المرحلة الثانوية أو ما قبل الجامعية، مع فرض واجبات منزلية قليلة أيضًا طوال العام.
• يتّسع الفصل الدراسي التقليدي بفنلندا حتى 20 طالبًا، ولا يُمكن عَزل الطلاب استنادًا إلى قدراتهم؛ فجميعهم يَدرسون في فصل واحد. وإذا ما كان بعض الطلاب يعاني من صعوبات في التعلّم أو طلاب مهاجرون يجدون صعوبات لتعلّم اللغة الفنلندية، يتم الاستعانة بمتخصّصين من خارج المدرسة لمساعدة المدرسين في مهامهم التقليدية.
• بمجرد بلوغهم سن التاسعة، يبدأ الطلاب في المدارس الفنلندية بتعلم اللغة السويدية بوصفها اللغة الرسمية الثانية بالبلاد، وفي سن الحادية عشرة، يبدؤون بتعلم لغة ثالثة غالبًا الإنجليزية، كما أن العديد من الطلاب في سن الثالثة عشرة يبدؤون بتعلم لغة رابعة.
• يمكن للمدرس الفنلندي التَدريس حتى أربع ساعات فقط في اليوم الواحد، منهم ساعتان يقوم بإعداد المناهج الدراسية وتقييم مستوى الطلاب.
• لن يَكفي المدرس الفنلندي الحصول على شهادة الليسانس أو البكالوريوس الجامعية فقط للتدريس بالبلاد، بل ينبغي أن يكون حاملاً لدرجة الماجستير، ومن بين الطلاب العشرة الأوائل على دفعته!
• على الأرجح يظلّ المدرس مع مجموعته التي يُدرّس لها من الطلاب لمدة خمسة أعوام، حتى يمكن له أن يَبني علاقة وطيدة مع هؤلاء الطلاب والتعرّف عليهم عن قرب.
• الطلاب في سن السادسة عشرة يختارون ما إذا كانوا يفضّلون الانضمام لمستوى الثانوية للاستعداد للالتحاق بالجامعة بعد ذلك أو الانخراط في تدريب مهني. وعلى الطلاب الملتحقين بمدرسة للتعليم المهني الحصول على درجات عالية في امتحان القبول في الجامعة للانضمام للأخيرة.
نصيحة أخيرة إلى القائمين على العملية التعليمية في مصر: أيها التربويون، أين المفرّ؟! ومستويات البطالة الكبيرة حتى بين المتعلّمين من خلفكم، والبيروقراطية والفقر والجهل والفساد من أمامكم، فليس لكم والله إلا التجربة الفنلندية، فتمسّكوا بها!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست