يشهد الجسم التربوي كغيره من الأجساد الحيّة كثيرًا من التبدّلات نكوصًا وصعودًا بحسب قدرته على استيعاب تفاصيل اللحظة التاريخية وتكييف حاجياته على ضوئها بفطرية دقيقة ومرنة تأخذ في الاعتبار المحدّدات الثقافية والحضارية والاجتماعية واعتبارات السوق التشغيلية والقدرات المستهدفة من الدولة التي ترمي إلى الوصول إليها في مخططاتها الاستراتيجية القريبة والبعيدة والمتوسطة.
وكل السياسات التعليمية لأيّ أمة ينبغى أن أن يكون لها من الذكاء الفطري الذي ينبّه للتوّ مجساتها الدقيقة المتحفزّة على الدوام لتلتقط كل الإشارات وتحويلها إلى دواعم حقيقية للتصحيح والتحيين وحتّى التبديل إن لزم الأمر.
وبعيدًا عن هلامية التنظير، بالإمكان أن نتمثّل التجربة التونسية في التعليم تناغمًا مع ما تعيشه المدرسة التونسية من حراك دائم منذ سنوات يولّد بين الحين والآخر شدًّا اجتماعيًّا تتباين درجاته مدًّا وجزرًا بحسب حسابات متراكبة محكومة بالتجاذبات الداخلية.
فالستينيون والخمسينيون ومن قاربهم من سليلي هذه الفترة ظلّوا يتحصنون بأمجاد التأسيس على اعتبار أنّ الانطلاق من الصفر في مناخ مقفر يخيم عليه الجدب، سيجعل كل شكل من أشكال الخضرة على قلتها إنجازًا يحق الاعتداد به والتنبيه إليه، فمثل أبناء هذه المرحلة كمثل المحتاج إلى الطعام يوشك على الموت، إذا وقع على الرغيف اليابس، عدّهُ من إشفاقه من الموت نصرًا مبينًا، أمّا من آلف الشبع وتخمة الموائد، فإنّه قد يُخيّرُ بين آلاف الصنوف فيجدها تدعو إلى القُهام! هكذا حال الأجيال المتعاقبة على المدرسة التونسية في تعاطيها مع منسوب الرضا عن أداء هذه المنظومة.
الواقع وبعيدًا عن التبخيس أو التثمين المجافي للحقيقة، فإنّ ريادية التجربة التونسية وجاذبيتها على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين هي مسألة لا ينكرها إلاّ جاحد، حيث ارتسمت للعيان معالم مدرسة حداثية بالقياس إلى زمانها جعلت لها هدفًا مركزيًا هو بناء كوادر الدولة الوطنية وتهيئة الموارد البشرية اللازمة لقيادة المرحلة، ونُصّار الخط البورقيبي لا ينظرون إلى هذه المرحلة إلاّ بأعين الإشادة والتنويه وحُقّ لهم ذلك بتقييمات موضوعية بعيدًا عن مقولات الحزب والزعامة.
لكن المعضلة أنّ هذه المدرسة التونسية التي قرأت واقع الستينات والسبعينات قراءة استراتيجية رصينة ساعدتها في ذلك معطيات تاريخية واجتماعية محلية وواقع إقليمي ودولي في مرحلة ما قبل طفرة التسعينيات وإكراهات القرية الدولية والثورة التقنية الزاحفة.
فهل بمقدور المدرسة التونسية اليوم بحقيقة المنجز المادي واللوجستى والبيداغوجي الناجز اليوم على الأرض أن تستوعب الأدوات اللازمة للتطوير؟ هل أنّ المتعلّم اليوم الذى يؤمّ المدرسة التونسية يجد فيها من أسباب الجذب والألق ما يجعله يقبل عليها إقبال المؤمن بحتميتها كمصعد حقيقي لضمان المستقبل؟ هل نجد للمتحاملين على المدرسة اليوم ما يبرّر تحذيراتهم المتكرّرة من دخول هذه المدرسة دائرة التصنيف الذي لا يليق بتجربة كانت لها الريادة؟
الثابت أنّ كل هذه الأسئلة لها وجاهتها بالنظر إلى متغريات التجارب الكونية في التدريس والمناهج العلمية، لكن الثابت أيضًا أن التجربة التونسية لها من الرصيد ما ينبغي المراكمة عليه وتطويره لصياغة نموذج يواكب الراهن الحارق مع الإشارة إلى أنّ التجربة التونسية أضاعت فرصًا كثيرة للتطوير وربح الوقت كانت على حساب أجيال متلاحقة، من ذلك الربط الذي حصل في مرّات عديدة بين التوجهات الفكرية والحزبية والأيديولوجية للجهة المطورة للبرامج والبرامج في حد ذاتها، فالاستفادة من العقول المفكرة في الدولة حتمية لا خلاف حولها، ولكن ليس إلاّ إلى درجة أن نرتهن مدرسة بأسرها للأمزجة والتكتلات والتحالفات الداخلية والخارجية.
أضف إلى كلّ هذا أنّه لا يمكن الحديث حقّا إلى اليوم عن تجربة إصلاحية جديّة شاملة في المدرسة التونسية جمعّت عقولًا تونسية رسمت النهج الأمثل للإصلاح دون السقوط في الأدلجة والحسابات المؤججة للصراع بدليل أنّ خطة وزير التربية هي الأقل استقرارًا على الإطلاق في وزارة استراتيجية تعد المزرعة الحقيقية للعقول وتحتاج إلى الاستقرار المطلق.
المدرسة التونسية ختامًا مدرسة أصيلة لها عراقتها ولها فضل السبق التاريخي بالقياس إلى غيرها من التجارب المشابهة، لكنها باتت أحوج ما يكون إلى التنبّه الواعي لمعايير المزامنة والتقاط اللحظة التربوية التقاطًا حقيقيًا بتنزيلها التنزيل الصحيح في مناخاتها النفسية والحضارية والتكنولوجية الحافّة بالمشهد التعليمى ككلّ.
فلم يعد في مقدور الأمم الحيّة أن تتزمّن في لحظة انتشاء حضاري ما، مهما كان ألقها، وليس بإمكانها أيضًا أن تنخرط انخراطًا قاصرًا في مقولات الهوية والذاتية أو الانبتات الكلّي بعيدًا عن السياقات الحضارية الحاضنة، فلسفة التعليم الأنجع ينبغي أن تأخذ في عين الاعتبار اليوم صورة تلميذ بسروال ممزق، وشعر مجلّل ينصت إلى منصات التواصل الاجتماعي أكثر ممّا ينصت للمعلم والأستاذ، صورة صادمة لكنها الحقيقة التي من أجلها ينبغي أن تستنفر العقول والاستراتيجيات للتكييف والمزامنة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست