التعليم حق، ومجانيته أيضا حق. لماذا؟ ما هي أهمية التعليم؟ لماذا تكون مجانيته حقًا؟ ما هي غاياته؟ ومن أين أتت فكرة التعليم المجاني كاستحقاق للناس؟ وهل يقتصر التعليم على الثقافة العامة ومحو الأمية أم يخدم أجندات استراتيجية سياسية اجتماعية واقتصادية أعمق؟ وهل للتعليم علاقة بالصراع الطبقي؟
تتوالى الأسئلة الكثيرة. وبالطبع، لن تتسع مقالة للإجابات كلها، ولعل الأفضل هو أن تترك بعض الأسئلة مفتوحة ليجيب آخرون عليها. لكن البعض يطرح أن جودة التعليم ليست ضمن متطلبات استحقاق التعليم.
حتى أن منهم من يتذرع بالمسؤولية الفردية ليتملص من المسؤولية الواقعة على الدولة، لا فقط فيما يخص التعليم، بل فيما يخص استحقاقات العمل والصحة والحياة الكريمة وهلم جرا من الحقوق المقرة في وثيقة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
عام 1966، أقرت الأمم المتحدة بالتعليم استحقاقًا إنسانيًا أساسيًا، أعطت من خلاله الناس والمؤسسات الاجتماعية والمهنية وغيرها حق التعليم دون استثناء، بالإضافة إلى حقوق أخرى، كالحق في العمل والحصول على الرعاية الصحية وحق الحياة الكريمة (UN General Assembly, 1966).
والحقيقة هي أن مجانية التعليم وجودته، في الدول المتقدمة، استحقاق لم تتمكن حتى الولايات المتحدة الأمريكية من التملص منه، على كل ليبراليتها وفردانيتها واستقتالها في الدفاع عن مبادئ السوق الحر والمسؤولية الفردية.
ما هو التعليم ولماذا كل هذا الاهتمام به؟
عرف جون ديوي التعليم عام 1916 في الصفحات الأولى من كتابه «الديموقراطية والتعليم» على أنه تيسير لعملية اكتساب المعرفة والمهارات والقيم والمعتقدات والعادات (Dewey، 1999)، لكن السؤال يبقى «ما الهدف»؟
بعيدًا عن الغايات السياسية المرتبطة بمقاومة التوسع المطرد في منتصف القرن المنصرم للاتحاد السوفييتي في أوروبا وأمريكا، لا بد أن يكون للتعليم كعملية غاية حقيقية في الاقتصاد والمجتمع، ليبراليًا كان أو اشتراكيًا، وإلا لما تبنته تلك المنظومات الاقتصادية والسياسية التي تحكم العالم اليوم.
نعَوم تشومسكي، أحد أهم فلاسفة ولغويي القرن العشرين، له طرح في التعليم شامل يجيب على بعض الأسئلة، علما أن هنالك اختلاف على معنى التعليم في الغرب، تم حصره باتجاهين لطالما حددا مسارات تطوير التعليم عبر التاريخ.
حسب تشومسكي، فإن «كلمة تعليم (Education) في الانجليزية تأتي من جذرها اللاتيني (E ducere)… وتعني التنوير» (Chomsky، 2012).
آخرون عرفوا التعليم بناء كلمة (educaten) الإنجليزية من القرن الخامس عشر، وجذرها (educatus) في اللاتينية، والتي تعني التربية (The Online Etymology Dictionary, n.d.).
من هنا، ومع تطور مجتمعات الحداثة في الغرب، بدأ الخلاف في تعريف المفهوم يتبلور بين التربوية والتعليمية.
من منظور تشومسكي، فإن «الهدف الأسمى من الحياة هو البحث والإبداع (أو الخلق). والهدف من التعليم انطلاقًا من وجهة النظر هذه هو مساعدة الناس على التعلم بأنفسهم… ويكون أساسيًا لهذا النوع من التعليم أن يعمل على تعزيز نزعة تحدي السلطة والعقل النقدي والقدرة على خلق بدائل للمنظومات البالية».
بدوره، يطرح جون لوك أن دور التعليم تربوي في الأساس وغايته تدعيم القيم (Locke، 1693)، وهذا ما نقده ديوي في كتابه عبر توضيحه الفرق بين التعليم والتربية.
في المقابل، يصر آدم سميث على أن التعليم المفيد ضمن معطيات عصره هو التعليم التقني والمتخصص وأن الفقراء لا يملكون الوقت للتعليم، وسميث لم يكن أبدًا من أنصار مجانية التعليم. (Smith, 2009)
أما كارل ماركس، فطرح أن التعليم في العادة يجنح إلى إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية السائدة وأن المعرفة التقنية، على دورها في تطوير عجلة الإنتاج الرأسمالي، تحد من معرفة الفرد وثقافته وبالتالي دوره في المجتمع (Engels & Marx, 1975)، ما يفيد أن الدورين التعليمي والتربوي لا يكملان بعضهما بعضًا.
كما وليس سرًا أن التعليم في بدايته كان يهدف إلى محو الأمية، لكن غاياته اختلفت عبر الألفيات الثلاثة الماضية.
في العصور الأولى، كان التعليم حكرًا على الكهنوت ونخبة معينة من المجتمع. إلا أن النصف الثاني من الألفية الثانية بعد الميلاد غير كل شيء. فقد أصبح التعليم مرادفًا للتقدم الحضاري والاقتصادي في البلدان التي تسلمت دفة القيادة من الحضارة العربية الإسلامية، بالذات في القرنين الأخيرين من الألفية الثالثة.
يشير المؤرخ البريطاني الراحل إيريك هوبزبوم في كتابه «عصر الثورة» أن التعليم في بريطانيا كان أساسيًا في سياق الثورة الصناعية، كأداة للنهضة كما وللتطور الذي قفز باقتصادات العالم الغربي إلى حدود السماء (Hobsbawm، 1996).
من المؤكد أن حضارة تقوم على أساس الكسب المادي محركًا ومعرفًا لها، كالحضارة الغربية المعولمة اليوم –وتشومسكي يؤيد– هي بالتأكيد «حضارة في خطر». علاوة على ذلك، فإن التعليم في ضوء هكذا حضارة يركز على متطلبات السوق. عليه، فإنه بحاجة إلى مواكبته. فيركز على التعليم التقني لينأى بموارد المجتمع البشرية عن الإنسانيات والفنون وغيرها من المساقات غير المطلوبة في السوق عادة ويدفق شبابه في المساقات التي يحتاجها. (Bovitch, Cullimore, Bramwell-Jones, Massas, & Perun, 2018)
في النهاية، فإن هكذا تعليم لا ينتج ثقافة، والثقافة هي إحدى أهم معرفات الحضارة.
لكن، إذا كان التعليم مهما إلى هذه الدرجة في مجتمعات الحداثة والمابعد-حداثية، فكيف إذًا نغفل جودته؟
وبخصوص التملص من مسؤولية المجتمع والدولة تجاه المواطنين فيما يخص التعليم، وجب التنويه إلى أن العقد الاجتماعي في دولة الحداثة التي نصبو إليها قائم على تحديد واضح لدور الدولة: الفرد يتنازل عن بعض حرياته لصالح الدولة مقابل حفظها للأمن وضمانها الحقوق الأساسية للمواطن، من ضمنها حق التعليم والعمل والحياة الكريمة والصحة.
عليه، إذا تنازلنا عن جودة التعليم، فكيف نضمن الحد الأدنى من المؤهلات لينافس المواطن في سوق العمل حتى يحظى بحياة كريمة؟
ومن ثم، فإذا بدأنا اليوم بالتذبذب في مخاطبتنا مسألة التعليم، فما يمنع أن نتنازل غدا عن الصحة والكرامة؟! أليسوا أيضا مسؤولية الفرد؟! وإذا أنيطت هذه المسؤوليات كلها بالأفراد، فما داعي الدولة أصلا؟!
لنتوخى الحذر في تعاطينا مع هكذا مسائل حساسة، فإذا اضمحل دور الدولة دون بديل حقيقي اجتماعي فعال، ما يمنع أن تنهار كافة ضمانات الأمن والعدالة والقانون؟
عمل الإنسان جاهدًا عبر التاريخ للخروج من الغابة، لماذا يصر الليبراليون والنيوليون على إعادتنا إليها؟!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست