لم يخطئ عالم الفيزياء الألماني ومؤسس نظرية الكم ماكس بلانك قط عندما قال: «ما يبدو اليوم غير قابل للتصور، سيصير يومًا من وجهة نظر أوسع بالغ البساطة والتناسق».

أعتقد أنه بمجرد النظر في المقولة السابقة، بل التدقيق فيها يتضح لنا فرصة للتأمل للعقل البشري حول محددات وسياق ما كان يقصده بلانك حينها، فالقارئ لا يعلم حدود هذا العالم التي رمت به ليملي عبارته، والتي في واقعها إن كانت تشرح ذاتها، إلا أنها في فحوي ما بين سطورها تركت إعجازًا لرافضي أن كل شيء من الممكن أن يتحول من العدم إلى الممكن.. من اللا شيء إلى الوجود.

وقياسًا على تلك المقولة نجد أن ديناميكيات حركة التطور العقلي الذي لم يقف عند نقطة محددة قد انطلق إلى مرمى لأهداف أبعد في مناحي الحياة المختلفة كالصحة، والطب، والهندسة، والبناء، والتعليم، وغيرها، حتى وصلت إلى ما هو أبعد، حتى أمست أصغر القطاعات غير قادرة عن الاستغناء عن هذا التطور في وقتنا الحاضر متمثلًا في التكنولوجيا الرقمية ووسائل الاتصالات الحديثة.

فإذا كانت التكتولوجيا قد لعبت دورًا مؤثرًا في اختصار الزمان والمكان فكان لاقترانها بتطورات المجالات المختلفة معجزة ساهمت في رسم ثورة إعجازية كالثورة الصناعية في بريطانيا، أو الثورة الفرنسية في الأدب والسياسة وحقوق الإنسان، فلقد وضعت ثورة تكنولوجيا المعلومات الرقمية لجميع الاكتشافات والاختراعات، كتكنولوجيا النانو في العلوم، أو وسائل التواصل الاجتماعي في علوم الاجتماع والاقتصاد وغيرها من المجالات فرصة حتمية كان لابد منها امتدت تأثيراتها وهيمنتها بشكل لم يكن ليتصوره الماضي وحتى الحاضر من الأجيال المعاصرة.

فلم يكن إذًا وفقًا لهذه الحتمية التي وصل لها العقل البشري من تطور أن يمنع خضرمتها ودمجها بعلوم أخرى ومرافق حياتية مجتمعية في منتهى الحيوية والأهمية لأجيال الحاضر والتي تمتد إلى المستقبل.

وكان على رأس تلك القطاعات والمرافق قطاع التعليم والذي كتب كثيرًا حول مساعي الحكومات والدول لتطويره بشكل يتناسب مع الفئات المختلفة لتنشئتها، باعتباره أحد أهم الأهداف التنموية في برنامج الأمم المتحدة للتنمية المستدامة الخمسة عشر المطلوب عكوف الدول على تنفيذ خطتها وتطويرها وتنميتها خلال 15 عامًا كتحد لابد من الخوض فيه والتغلب على القضايا الناشئة من بعده لتحقيق معدلات نمو اقتصادي واجتماعي بشكل أو بآخر، يتحدد بها الكثير من الطموحات الناشئة لأجيال قادمة.

فوضع هدف النهوض وتطوير ملف التعليم باعتباره منقذًا للعالم إذًا من كوراث حتمية ومحققه على الأرض كالفقر والبطالة وغياب السلام والازدهار إلى نهاية الجملة، إلا أن أبرز ما كان له صدى في ذلك الهدف العالمي هو صياغته (بألا يتخلف أحد عن الركب)، وكان السبيل لذلك هو تحقيق مستوى تعليمي مساو لمستويات التعليم في الدول التى أولت لهذا الملف (أولوية) مطلقة للنهوض والتي وجدت أن السبيل (لاختصار الزمن) وتحقيق (الثورة الإعجازية) التي أشرت إليها في بداية المقال هو (الدمج) بين (التعليم) كمنظومة متخصصة و(التكنولوجيا) كمنظومة رقمية تساعد الأجيال على سرعة في التعلم الذاتي والخروج من عباءة التعليم بمفرداته التقليدية إلى (التعلم) بمفرداته الحديثة وغير التقليدية، تعتمد بشكل كبير على (المتعلم) بالأساس وقدراته ومهاراته واستيعابه يتنافس فيه مع الآخرين حول (الكيف) من التحصيل العلمي وليس (الكم) فقط على (تنمية مهارت التفكير العليا) والقدرة على بناء أجيال قادرة على اتخاذ قرارات أكثر نضجًا في حل المشكلات الصغيرة وحتى أبرز القضايا العالمية وتكوين وجهة نظر كلية حولها.

فكان من هذا المنظور إذًا رؤية استراتيجية وضعت مبادئها بعناية للانتقال من حدود الأسوار المدرسية تنمو داخل فصل مدرسي ومعلم مرشد إلى بناء بيئة أكبر للتعلم تتصل بشبكات رقمية تساعد على اتساع الأفق والتفكر وهو ما كان ليحدث إلا بعملية الدمج بين علوم التكنولوجيا والتعليم، والتي لم تنف الدور التقليدي للتعلم، بل جاءت لتلعب دورًا مكملًاا له يساهم في رفع منظومة التعلم لتحقيق الهدف بشكل أعمق تدراكًا لنتائج المرحلة الحالية من مراحل (التعليم المعولم) يساوى بها بين الطالب في الشرق والغرب.

فاليوم أصبح الطالب الأوروبي على سبيل المثال يعتمد في تحصيله العلمي على أدوات ووسائل رقمية وتكنولوجية تعمل بشكل فعال في إثقال مهاراته ونموه الفكري والعقلي تجعل منه (عقلًا منتجًا مخترعًا ومستكشفًا، بل ناقدًا للعلم وأسسه)، صحيح أن تلك المنظومة بنيت بشكل متدرج أخذت سنوات حتى بنيت إلى ما أصبحت عليه الآن، وبالتالي كان من الضرورى أن يتم اللحاق بالركب لتصبح المنظومة التعليمية في دول العالم الثالث على نفس الخطا،  ويكفي أننا تأخرنا كثيرًا لنفهم أهمية تلك (الثورة الإعجازية) في تحقيق أهداف تنموية بالغة الأهمية.

فاليوم يعمل صناع القرار والقائمين على تطوير نظام التعليم في مصر منذ أكثر من عامين على طرح خطة تطوير وإصلاح منظومة التعليم، والتي لاقت تحديات كبيرة لسبيل عرضها وتنفيذها في بيئة تعليمية عانت من سنوات طويلة من المشكلات الفنية والتربوية وصاحبها اعتراضات كبيرة على المستوى غير الرسمي.

ونظرًا لوجودي ومشاركتي في مطبخ مشروعات إصلاح وتطوير المنظومة التعليمية وتحويلها من التقليدي إلى الرقمي وإنتاج المقررات الإلكترونية والمساهمة في عرض المحتوى التعليمي في إطار تقني ممتع وشيق تعتمد على التفاعل التعليمي مع الوسائط الإلكترونية؛ مما يسمح للطالب باكتساب مهارات جديدة تصاغ وفقًا لأهداف تقيس مهارات التفكير العقلي وتتدرج من المستويات الدنيا إلى المتوسطة ومن ثم العليا، فكان لابد عن إحقاق القول: إن (التعليم) إن لم يكن في طريقه إلى الدمج الرقمي كان سيفوت علينا وعلى الأجيال الحالية والقادمة الكثير من التعلم والاستفادة، فإن الخطوات التي يسعى إليها صناع القرار في مصر خطوة على الطريق الصحيح حقيقة، إن لم تكن خطوة متأخرة جدًا فوتت على الأجيال السابقة منحىً للعبور نحو المستقبل واللحاق بالركب الحالى لتحقيق منظومة تعليمية أكثر توازنًا واتساقًا مع العالم الخارجي.

لكن كما أن لكل شيء حولنا وجهين، فإن الوجه الآخر لتجربة التعليم الرقمي لا تخلو بطيعة الحال من سلبيات أو جانب آخر غير نفعي مناسب لبيئات التعلم والتعليم في الآونة الحالية أيضًا، فإنها قد تكشف لنا أبعادًا أخرى عند الاختبار الحقيقي لها كمنتج ومخرج لها قد لا نكون في رؤية صائبة لتحديد معالجته في وقتنا الحالي، إلا أن الحاجة لوضع اللبنات المناسبة حقًا هي ضرورة ملحة شئنا أم أبينا، فقد تبدو مشكلة صانع القرار القائم على خطة تطوير التعليم الحالي غير ملم بأبعاد مستوي الثقافة بالتعليم الإلكتروني ونسب الجهل الناشئة عنه، أو أن البيئة الاجتماعية بحاجة إلى خطة استراتيجية مناسبة من الضرورى التزامن في تطبيقها بالتوازي مع تطبيق خطة الإصلاح التعليمي، أو هناك خلل في الخطة الإصلاحية في عناصر ووسائل وآليات التطبيق التي قد يكون هناك لغط حول قبولها، وبالتالي درجة استقبالها بين الفئات الطلابية والمستويات غير الرسمية ذات العلاقة المباشرة بملف الإصلاح التعليمي، فيبقي إذًا من هذه الوجهه أنه لا جدال حول الحتمية الرقمية، وإنما تدور حول المعالجة الرقمية لملف التعليم وآليات التطبيق للخطة الاستراتيجية الموضوعة.

وبالتالي لا يمكننا أن ننكر حقيقة الحتمية (للدمج) بين (التعليم والتكنولوجيا) في تحقيق النهوض والنمو والازدهار في الوقت الحاضر مع مراعاة التطبيق المناسب ووضع الآليات المعالجة، وأن نضع صوب أعيينا أن كل ما كان بعيدًا لابد أن يكون قريبًا يومًا ما حتى وإن فاق تصوراتنا وتوقعاتنا.. ولذلك فقد حانت لحظة تحقيقه والسير على الخطوات الصحيحة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد