ظهرت أقاويل كثيرة في الفترة الأخيرة تملأ صفحات التواصل الاجتماعي على اعتبار أن مصر قبل انقلاب 23 يوليو كانت أفضل حالًا مما هي عليه الآن، ولكن هذا ليس صحيحًا، بل كانت الأحوال الاقتصادية الاجتماعية سيئة للغاية، والحياة السياسة كانت مقتصرة على كبار الإقطاعيين الذين يملؤون مجلس النواب، وكانت مصر تحت احتلال بريطاني.
كل هذه الأشياء ونجد من يقول بدون علم أن مصر قبل ثورة 23 يوليو كانت أفضل، ولكن تلك أكذوبة، وليس ذلك معناه أن هذه المقالات دفاع عن فترة «جمال عبد الناصر» التي كان مليئة بالاعتقالات والتعذيب والإعدامات وتدمير الحياة السياسية في مصر وحل جميع الأحزاب وتأميم النقابات، ولكن ذلك حتى لا يتم خداع الجماهير حول فترة الملكية في مصر، ولذلك سأسعى لكتابة مقالات مختصرة أحدد فيها أهم الأزمات والمشاكل بل والكوارث التي كانت في الفترة ما قبل 23 يوليو حتى تكون الصورة واضحة للجميع، وسنبدؤها بتنظيم الاغتيالات الذي أسسه الملك «فاروق» لتصفية خصومه السياسيين.
كانت سمة هامة في مصر في الأربعينيات تكوين التنظيمات السرية التي تقاوم المحتل، ولكن قبل ذلك ظهرت تنظيمات سرية وظائفها الرئيسة اغتيال القيادات الموالية للإنجليز، وعلى غرار ذلك سعى فاروق لتكوين ذلك التنظيم الحديدي لتصفية خصومه السياسيين.
ولكن حتى تصبح الصورة أكثر وضوحًا عن أسباب قيام فاروق بذلك، هو أن الخصوم السياسيين لم يكونوا ثوريين أو مناضلين ضد الإنجليز، ولكنهم كانوا أصحاب علاقات قوية، ومصالح مشتركة مع الإنجليز مما كان لا يمكنه من اعتقالهم والزج بهم في السجون، أو تلفيق قضايا لهم بسهولة. لذلك لم يجد أمامه إلا وسيلة الاغتيال حتى يقوم بتصفية هؤلاء الخصوم.
وظهر ذلك جليًا أمام فاروق خاصة بعد أحداث 4 فبراير 1942 عندما كانت بريطانيا من خلال سفيرها «مايلز لامبسون» على وشك عزل فاروق من منصبه. وذلك بعد اقتراب هجوم قوات «رومل» من الغرب من ليبيا المستعمرة الإيطالية غرب مصر. وكانت تعمد إلى إجبار فاروق إلى تكوين حكومة وفدية كاملة لتنفيذ بنود اتفاقية 36 التي تعطي إنجلترا السيطرة الكاملة على جميع المطارات والمواني والطرق المصرية، وإدخال أي عدد من قوات لديها ونشرها في مصر.
ومع الانتصارات الساحقة في بداية الحرب لألمانيا شعر فاروق أن موازين القوى ستتغير وبدأ يسعى إلى عمل اتصال مع ألمانيا لتخليصه من السيطرة البريطانية عليه، ولكن إنجلترا كانت مدركة لذلك تمامًا فطلبت من فاروق إقالة حكومة «حسين سري»، وتعيين حكومة وفدية برئاسة «مصطفى النحاس»، وذلك بعد مداولات بين الإنجليز ومصطفى النحاس عن طريق «أمين عثمان» وذلك لضمان تنفيذ اتفاقية 1936 التي أبرمها مصطفى النحاس مع الإنجليز.
شعرت بريطانيا أنها تأخرت كثيرًا وذلك قد يفقدها الكثير، خاصة مع خروج مظاهرات تنادي بتقدم «رومل»، فخرج السفير الإنجليزي وقائد القوات الإنجليزية في مصر ومعهم الدبابات والمدرعات البريطانية يوم 4 فبراير 1942، وحاصرت قصر عابدين وخيرت الملك فاروق بين خيارين:
- الأول الانصياع الكامل لها وعمل حكومة وفدية برئاسة مصطفى النحاس.
- الثاني عزل الملك فاروق وعمل حكومة وفدية انتقالية برئاسة مصطفى النحاس.
شعر هنا فاروق بضعفه وأن حليفه السابق انقلب عليه، وقوة أصدقاء إنجلترا وعدم قدرته على مواجهتهم بالسبل العادية فلم يجد إلا الانصياع وتنفيذ أوامر الإنجليز خاصة بعد أن كان على وشك خسارة عرشه، كما حدث للخديوي «عباس حلمي الثاني».
وتظل الأفكار موجودة في رأس فاروق حتى يحدث له حادثة القصاصين عندما تقلب سيارته ويصاب فيها بكسر في الحوض، وهنا يحضر له دكتور في الملكية البحيرة يسمى «يوسف رشاد»، ويتعرف عليه الملك ويعجب به، وتزداد علاقته فيجعله من حاشيته ومن المقربين إليه.
تحدث حادثة أخرى وهي محاولة اغتيال إبراهيم «عطا الله» رئيس أركان الجيش المصري صاحب العلاقات القوية مع الإنجليز، ويتم القبض على مجموعة الضباط داخل الجيش وكانوا هم المسئولين عن هذه الحادثة، ويعلم الملك فيتدخل الملك عن طريق يوسف رشاد ويستطيع إخراجهم من القضية، ويبدأ في دعوتهم لعمل تنظيم يهدف لحماية الملك، ويجندهم في حرس حديدي خاص مهمته اغتيال خصوم الملك.
وكان من أهم أعضاء الحرس الحديدي هم يوسف رشاد مؤسس الحرس الحديدي، ومعه زوجته ناهد رشاد كبيرة وصيفات القصر، واللذان يتلقيان الأوامر مباشرة من الملك فاروق، مصطفى كمال صدقي، وعبد القادر طه، وخالد فوزي، وعبد الرحيم صدقي، وعبد الرؤوف نور الدين، ومحب عبد الغفار، وتوفيق عبد الله صادق، وسيد جاد. وذكر البعض أن «محمد أنور السادات» أحد أفراد التنظيم خاصة بسبب علاقته القوية مع يوسف رشاد وأنه كان أحد المتهمين الذين تمت تبرئتهم في قضية اغتيال أمين عثمان.
وبالفعل يبدأ هذا التنظيم في تنفيذ عمليات الاغتيال ويحظى بالجانب الأكبر حزب الوفد المنافس الحقيقي لقصر عابدين، ومن أشهر عمليات الاغتيال هي محاولتان لاغتيال مصطفى النحاس، ولكن الحرس الحديدي يفشل، ومحاولة لاغتيال «رفيق طرزي» عضو حزب الوفد الذي كانت تدور حوله شكوك في علاقة مشبوهة مع الملكة فريدة زوجة الملك فاروق، ولكنه ينجو من الموت بأعجوبة.
وتمت محاولات أخرى ووردت أسماء أخرى على رأس قائمة الاغتيالات، ولعل أشهرها محمد نجيب أحد أهم القادة الوطنيين أصحاب الشعبية الجارفة في الجيش آنذاك، ولكنه لم ينفذ.
واغتيال ناجح لأمين عثمان اللاعب الرئيسي في العلاقات بين الوفد والسفارة البريطانية في أحداث 4 فبراير، والصديق المقرب لـ«مايلز لامبسون» سفير بريطانيا في مصر.
ويستطيع فاروق حماية حرسه الحديدي وإخراجهم براءة من القضية المتهمين فيها بقتل أمين عثمان، وتقع محاولة أخرى لاغتيال «حسن البنا» مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ولكنها تفشل، ومع كثرة فشل وعدم نجاح العمليات دعا فاروق إلى السعي إلى تكوين حرس حديدي جديد بقيادة ضابط آخر في الجيش يسمى «محمد وصفي» وينجح في أول عملية موجهة إليه وهي اغتيال حسن البنا عام 1949 وبعدها يسعى في اغتيال الحرس الحديدي القديم وتصفية أعضائه. وبالفعل ينجح في اغتيال عبد القادر طه تمهيدًا لاغتيال مصطفى كمال صدقي الذي أثيرت حوله شكوك في أنه يدبر مؤامرة لقتل الملك، وهو يعد أهم عضو في الحرس الحديدي. وحدثت انشقاقات داخل الحرس الحديدي خاصة بعد قتل رفيقهم، على الرغم من عدم تأكدهم بأن من قتله هو الملك.
وكان الاهتزاز الواضح للسلطة في مصر والتخوف من نجاح انقلاب عسكري كان الجميع يراه قريبًا مما دعاهم إلى عدم التصدي وانسحابهم وبحثهم عن أصدقاء داخل تنظيم الضباط الأحرار لمحاولة تجنب محاكمات مستقبلية في حالة نجاحهم. وبالفعل انخرط أعضاء منهم داخل الضباط الأحرار وتمت حمايتهم من جرائمهم السابقة.
وكانت النهاية الفعلية لهذا التنظيم بانقلاب 23 يوليو 1952م وخرج الجميع من المشهد السياسي.
ويلاحظ هنا أن الملك فاروق لم يبدأ في التنفيذ الفعلي لهذا التنظيم وعملياته إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء على المحور، بعدها خفت حدة إنجلترا مع القصر لأن الخطر الرئيسي قد انتهى وبالفعل استطاع فاروق إقالة مصطفى النحاس ولم يعد يهتم الإنجليز بالنحاس الذي أتم مهمته على أكمل وجه بالنسبة للبريطانيين.
وبعد هذا السرد المختصر نجد أن هذا التنظيم لم يكن سوى إحدى وسائل الدولة الملكية لتصفية خصومها، وإعادة سيطرتها الكاملة وتدمير بوادر الحياة الديمقراطية الوهمية التي ادعى حزب الوفد صديق الإنجليز الوفي أنها موجودة، ولم تكن الاغتيالات موجهة إلى قيادات نضالية حقيقية لأن الملك لم يكن في حاجة لذلك لأن القوانين الموجودة والقلم السياسي كان كفيلًا بذلك.
هذا أحد المشاهد الهامة في مصر قبل انقلاب يوليو، والذي يتكرر باستمرار ليس في أماكن مختلفة فقط وإنما في أزمنة مختلفة.
لذلك ستظل التنظيمات السرية للدول موجودة لتنفيذ المهام السرية والجرائم التي لا يمكن أن تمررها القوانين الجائرة، وتكون دائمًا خيطًا رفيعًا متصلًا من مؤسسة بعينها إلى مرتزقتها، لتنفيذ المهام الموكلة إليهم، وذلك لسيطرة الدولة على الجماهير، ونشر الخوف والفزع بين الجماهير سواء بالتفجيرات أو الاغتيالات لوقف التحركات الجماهيرية، وما زالت الحكومات تستخدمه حتى اليوم ولكنه ليس ظاهرًا على الملأ، ولكن بعد انتصار الثورات وسقوط الأنظمة كل شيء يظهر.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست