طوال الحياة السياسية والبرلمانية في مصر، والتي امتدت لعشرات السنين، والتي كانت في زمنٍ ما جار عليه الدهر “قل للزمان ارجع يا زمان”، فخر الصناعة البرلمانية ورمزًا يحتذى للحياة التشريعية والنيابية في مستعمرات التاج البريطاني، ظلت مصر درة التاج القانونية حيث عرف الشعب طريقه للبرلمان والدستور في ظل الانتداب البريطاني، ورغم إطلاق الاحتلال يده في كافة مناحي البلاد، وبالرغم من سوداوية وفوضوية الموقف عبر عقود تلتها من الظلم والطغيان، لم تعرف مصر فترة أكثر، أو حتى اقتربت “هزلية”، من تلك الفترة التي “لذنب ما لا أعرفه ارتكبه جيلنا” نعيشها حاليًا!

فبالرغم من أن عناصر الدولة المصرية حينها تلخصت في ملك لا يحكم، وبرلمان لا يشرع، وشعب يعمل أغلبه في الزراعة ولا يقدح فكره إلا بفأسه؛ كان هناك عنصر فريد في مكونات المجتمع المصري حينها يتسيد المشهد بلا منازع.. عنصر الوعي!

فذلك الفلاح البسيط الذي لا يعرف من السياسة غير أنها “لغة الأفندية” و”المثقفين”، ولا يفهمها إلا “البشوات” والـ”خواجات”، كان يعرف بفطرته السليمة أن الإنجليز هم عدو بلاده الأول، وأن الملك لا يعينه الباب العالي في إسطنبول، وإنما المندوب السامي البريطاني.

كان يعلم جيدًا أن كلام السياسيين “زبدة سايحة” تشرق عليه شمس الحقيقة التي أنضجت جباههم السمراء فـ”يسيح”.

لم يكن يدرك الرأسمالية ولا ما تعنيه تلك الكلمات المستعصية على الفهم، لكنه كان يعلم أن بورصة القطن في يد الإقطاعيين من الإنجليز، وأن خير البلد في بطن “الحوت الإنجليزي”.

كان يربي ابنه “الأفندي” على أن السياسة “لعبة الملك والحكومة والإنجليز”، وأن البرلمان يحميه عصابة “البشوات”، وأن الحقيقة التي لا ينكرها أحد في قول من يتهمهم الملك بالتمرد أمثال “هوجة عرابي” والزعيم “مصطفى كامل” و”محمد فريد” والوزير الناقم حينها “سعد زغلول”، الذي قرر فجأة أن يغادر سرب الحكومة ويغرد منفردًا وينادي باستقلال هذا الوطن.

حتى الإنجليز احترموا هذا الشعب الذي رموه بالرجعية والتخلف، تحت مسميات طبقية على شاكلة “فلاحين” و”رعاع”، فمنحوهم برلمانًا على شكل “برلمان”.

أقاموا مسرحًا يليق بجمهور يستطيع أن يكشف الممثل الحقيقي من “الكومبارس” بعد دقائق، فكان النواب “بشوات بحق” و”إقطاعيين” درسوا وأبناؤهم في جامعات أوروبا، ودرسوا في “بلاد الخواجات”، وتعلموا لغات “الفرانسوية والإنجليز والتراكوة” وغيرهم.

كان يليق بهم “الطربوش” والنعرات الجوفاء في الخطب، وكانوا يعرفون كيف يضعون الكلمة في موضعها، حتى لو خلت الكلمة وموضعها من الحقيقة.

في الواقع كان مشهدًا مسرحيًّا، لكنه يليق بشعب يستهويه دور المتفرج، إلا أن يقرر أن يثور على رداءة المشهد، العجيب حينها أن “المنوفية”، البلد التي أنجبت لنا مبارك وأحمد عز وزكريا عزمي وكمال الشاذلي، ومنحت شفيق دعمًا جبارًا في انتخابات الرئاسة؛ منحتنا حينها مثالا للحرية نقش على وجه التضحية بأحرف من ذهب، وأهدتنا “دنشواي” بنخوة “ولاد البلد” وغيرتهم على ممتلكاتهم التي استباحها عسكري إنجليزي برصاص بندقيتة الطائش، الذي أخطأ صيده لكنه أصاب كبرياءهم ونخوتهم وداعب غيرتهم على عرضهم وأرضهم!

ذات الشعب أو قل أحفاد هؤلاء، وبعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال الزائف والحكم الجمهوري المقنع الذي استبدل بملكية التوريث ملكية العسكر، حضر الجهل وسجل “الوعي” نفسه غيابًا، ينأى بنفسه عن الخوض في تلك المهزلة التي سيقف أمامها التاريخ أكثر من حكايات “قراقوش” وغيره.

الآن يقف التاريخ مشدوهًا أو فارغًا فاه على “برلمان منتخب” لا تليق وجوهه بـ”خشبة مسرح” ساخر للريحاني، فضلا على أن يكونوا “نواب برلمان”.

أما الندبة التي لن يغفرها القدر في جبين الشعب المصري، أن تلك المسرحية صفق لها الجمهور “أو بعضه” بحماسة، وانقلب على قفاه ضاحكًا من مشاهد تبكي أكثر مما تُضحك.

فـ”توفيق عكاشة “، تلك الظاهرة التي لخصت الفجوة الضائعة في نظرية التطور لداروين بين الحيوان والإنسان، والذي لعب دور مهرج الثورة؛ صار له الآن أن يعلن في مداخلة هاتفية على قناة ما، وأمام الملايين بعد فوزه بأغلبية كاسحة، أنه “مفجر الثورة”.

أصبح صاحب نظرية “تزغيط البطة”، و”باركينج البقرة”، و”حزمة الجرجير فيها كام عود”؛ صانع سياسة ما في دولة ما اسمها “مسخ”، وكانت تسمى يومًا ما “مصر” بل وربما وكيلا لبرلمانها أو رئيسًا له.

وصار “مصطفى بكري” رجل كل المواقف القذرة، والذي يتلون على وجهه حتى لا تكاد ترى له لونًا، فهو تارة معارض لمبارك، وأخرى مدافع عنه، ثم شريك في الثورة، ومرشح للإخوان، وداعم للمجلس، ومع شفيق ثم عنان، وكلمة السر “للسيسي” بصدفة كونية ما، عضو هو الآخر في البرلمان.

وعن “مرتضى منصور” ونجله النجيب “أحمد”، أول ثنائي بين أب وابنه في تاريخ البرلمان “العزبة”، وشعارهم الرقي بدور المرأة المصرية عن طريق ترديد اسمها دومًا في كل المناسبات “أمك.. وهطلع.. أمك مرة أخرى”.

ذلك الرجل الذي دافع عن مبارك باستماتة، وسب الثورة والثوار، ودعم قتل شباب الأولتراس، وضرب بكل القيم عرض الحائط من منطلق “أوديكي فيين يا عافية!” صار الآن قادرًا أن يطل علينا من منصة تحت قبة متحف “للتحف الآدمية” يدعى “البرلمان المصري” ليقول لنا خطبًا أعتقد أنها ستدور بشكل أو بآخر عن “أمهات” الشعب المصري.

وعن رجال مبارك في البرلمان، حدث ولا حرج. غير أن المشهد الآن صار أكثر هزلية مما سمي ببرلمان 2010 والذي كان المسمار الأخير في نعش نظام مبارك.

كان برلمان مبارك يملك فقيهًا قانونيًّا حذقًا “فتحي سرور” وإن باع ضميره للشيطان، كان يملك مهندسًا لصًّا وإن كان يومًا ما راقصًا أو عازف درامز “أحمد عز”، خطط لإخراج المشهد بهذا الشكل حينها.

على أقصى تقدير، فإن مخرج البرلمان الحالي كان حلوانيًّا، وتحديدًا “بتاع كنافة”؛ حيث أنه استطاع أن يخلط خيوط “عجينته” بشكل يستحيل فكه إلا بحرقها في الفرن.

في كل فتراتنا المظلمة من العقود الأخيرة، كان هناك إطار ما ولو هش لشكل الدولة، وكان هناك اتفاق غير مكتوب على المحافظة على “خشبة المسرح”، وقليل جدًّا أو نذر يسير من بقايا احترام عقلية المشاهد.

أما الآن، فالرهان أصبح على أن المشاهد نفسه يصلح أداة للسخرية، بل وجهله الزائد أقنع الممثلين “الفشلة” أنهم يجيدون ما يفعلون، لا أدري ما الذي سيكتبه التاريخ عنا بعد عدد من السنوات، لكنني أعرف يقينًا أن شخصًا ما يمسك بكتاب يؤرخ لتلك الحقبة سينقلب على قفاه من الضحك عندما يقرأ ما حدث.. أو ربما من البكاء! وإن استمر الحال دون تغيير قد ينقلب من صفعة يد ما نعرفها جميعًا، وجدت طريقها إلى قفاه بعد أن عبرت إليه عبر أقفيتنا.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد