من يقف على الأوضاع في المجتمع المصري اليوم ونتاجًا لتوتر الفترات السابقة، لن يصعب عليه أن يلحظ الانحلال الأخلاقي، وانعدام الأسس الدينية، وانهيار القيم والمبادئ التربوية التي تفشت في المجتمع، وأصبحت تلك الصفات هي سيدة الموقف والسلوك السائد في أغلب جنبات المجتمع، حتى بات السقوط في الهاوية أمرًا وشيكًا، فما إن غابت سيادة القانون واختلفت نظرة الناس إليه حتى انتشر الفساد وعمت الفوضى، وكأن الناس كانت في حالة انتظار لتُخرج أسوأ ما بداخلها دون مؤشرات لانحسار ذلك؛ حيث لا قانون يطبق فعليًّا للحد منه، وهو الأمر الذي فضح وبقوة حقيقة الفكر الكامن في عقول الكثير من أفراد المجتمع، وسلبية دور التعليم، ونظرتهم إلى ما يرتكبونه من أخطاء بعين التبرير، واعتبارها حقوقًا لهم وحريات كان القانون حاجزًا يحول بينهما، لا نظرة أخطاء تتنافى مع الضمير والأخلاق، وحتى من هم على يقين باعتبارها كذلك، تجاهلوا تلك الحقيقة كما تجاهلوا حقوق الآخرين وحدود حرياتهم، والضرر والأذى الواقع عليهم من جراء تلك الأفعال، مبررين ذلك بالفقر والبطالة والكثير من المشكلات الاجتماعية الأخرى التي لا تبرر أن يحيا شخصٌ على أذية الآخرين.
وعلى الرغم من أن الكثير من المجتمعات تعرضت بشكل من الأشكال لمثل تلك الفوضى والمشكلات، إبان أي ثورة أو أزمة حيث لا تعد مصر فريدة من نوعها في ذلك، إلا أن تلك الدول تمكنت من التغلب عليها، والخروج من ذلك المأزق بعدة إصلاحات اقتصادية وسياسية، كان على رأسها إصلاح التعليم وتفعيل سيادة القانون، وذلك من منطلق أن التعليم هو القاعدة التي تتأسس عليها الكثير من الأخلاق والقيم والأسس الدينية، كما يعتمد عليه مستقبل الدولة العلمي والتكنولوجي، وهو الإصلاح الذي يمتد أجله وتظهر نتائجه على المدى البعيد، بحيث يحتكم الناس بعد ذلك إلى مبادئهم في حالة غياب النظام، أما تفعيل القانون والذي يكون على الجميع على حد سواء هو أولى خطوات الدولة تجاه العدل، والأمن، والاستقرار؛ ليحكم الناس وقت الفوضى وتُلزمهم القوانين بما لا تلزمهم به ضمائرهم، وتؤخر من تطور أي ظاهرة سلبية مصاحبة لتلك الأزمات، مثل ما يعرف بجرائم ما بعد الثورة.
ولكن وبالرغم من ثبوت فعالية تلك الإستراتيجيات ونجاحها في العديد من الدول التي تقدمت الآن بفعل ذلك، وبالرغم أيضًا من ثبوت ركائز ودعائم الدولة الأساسية في مصر من حكومة وجهات تشريعية منذ فترة ليست بالقصيرة، إلا أن الدولة لم تلتفت إلى تلك الحلول أو تحاول البت فيها بجدية متذرعة بالعديد من المبررات؛ وكان نتيجة لذلك أن ازداد الوضع سوءًا، وهبطت جميع المعايير عن الحد الأدنى المقبول منها، حيث يعد إصلاح التعليم وتفعيل سيادة القانون محورين متوازيين مدى توجه الدولة وجهودها في إصلاحهما هو مؤشر نهضتها أو انهيارها، وبالتأكيد مؤشر تلك المحاور في مصر وفي الوقت الراهن لا يخفى على أحد، فهو واضح للقاصي والداني، حيث التعليم الذي اختُصر في الشهادة دون علم أو ثقافة أو طموح، ونظام مدرسي يعتمد في مجمله على الثانوية العامة التي أسست طقوسًا وعادات أضحكت العالم علينا من فرط الرجعية والجهل، أما القانون فحدث ولا حرج، حيث لا تكاد تلمسه على أرض الواقع مقارنة بسطوة وسيطرة المجرمين، فمن يخرج من التعليم فاسدًا أو فاشلًا لا يجد قانونًا يردعه أو يحمي الناس من فساده كحد أدنى، حتى تخطت مع الوقت جرائم ما بعد الثورة مسماها لتصبح ظواهر، ثم سلوكيات وطباع يسعى الآخرون للاحتماء منها لا مواجهتها، فلا قانون يعيد الحق لأصحابه، ولا شرطة تحمي الأبرياء، حتى بات لا يلجأ إليهم الكثيرون يأسًا وعلمًا بما ستؤول إليه الأمور في النهاية.
وبالتأكيد لن يكون هناك هذا التوافق الهائل بين انهيار الأخلاق وانعدام القانون، إلا وسيتيح ذلك الفرصة والمجال والبيئة الخصبة لكل ما هو سيئ أن ينمو من أمراض اجتماعية وظواهر سلبية وجرائم وعنف، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هي تلك الجرائم التي تحولت إلى ظواهر تنبئ بحدوث كوارث أكبر، في حال استمر تطورها على نفس الوتيرة، ومنها جريمة خطف الأطفال، التي بدأت على استحياء ثم استوحشت في المجتمع؛ نتيجة إفلات الجناة من العقوبة، والاستهانة بها حيث لا تعد الرادع القوي مقارنة بما يجنيه هؤلاء من مقابل مادي يستحق المخاطرة من أجله بالنسبة لهم، وبالتالي تجرأ الجميع أسوة بمن سبقوهم، طامعين في المال، آمنين العقوبة؛ فظهرت بذلك جميع أنواع عصابات خطف الأطفال التي أصبحت خطرًا يهدد كل أسرة مصرية وكابوسًا يلاحقهم في كل مكان، فأمر خطف أي طفل لم يعد يقتصر على مكان أو زمان أو غني أو فقير، بل يطال الجميع في الأماكن العامة والمغلقة، وحتى مستشفيات الأطفال وإن كانت الأقل نسبة، وغالبًا ما ينتهي مصير الغالبية العظمى من هؤلاء الأطفال إما بين أيدي عصابات المتسولين، وإما عصابات الاتجار بالبشر بغرض سرقة وبيع الأعضاء، والنسبة الأقل منهم يتم بيعها لأسر في الخارج بأوراق مزورة، أو طلب فدية مقابل إعادتهم، وتكون تلك هي النسبة الوحيدة التي يتم إرجاعها لذويها في نهاية المطاف، حيث بما يعادل 98% من حالات الخطف لا تتمكن الشرطة فيها من العثور على المخطوف قبل أن يتم بيعه أو قتله، وبالتالي من يفقد طفله يدرك أن فرصة إيجاده ضئيلة جدًّا لاتساع نفوذ المجرمين وسيادة قانونهم.
ولم يكن رد فعل الحكومة إزاء كل ما هو حاصل سوى تعديل المادة 290 من قانون العقوبات، بحيث تصل عقوبة الخاطف إلى المؤبد أو الإعدام في حال تم الاعتداء على المخطوف، وهو ما لم يؤثر في معدلات خطف الأطفال، أو يقلل منها بالتأكيد لعدم تفعيل وتنفيذ القانون على أرض الواقع، أو تشديد الأمن بما يقضي الإمساك بكل من يحاول أو يمنعه، وبالتالي بقيت الأزمة على حالها حيث بدأت الحكومة بالخطوة الثانية متخطية الأولى والأهم، فقد شرعت بتغليظ العقوبة قبل أن تضع خطة لمحاصرتهم والقضاء على الظاهرة، ومن ثم تطبيق القانون عليهم، ولذلك بلغت معدلات الخطف خلال الثلاث سنوات الأخيرة فقط من 300 إلى 400 طفل سنويًّا، كما ازداد هذا المعدل خلال العام الجاري ليبلغ طفلًا كل 12 ساعة بحسب الأمين العام للائتلاف المصري لحقوق الطفل هاني هلال، وغالبًا ما تكون الفئة العمرية المستهدفة ما بين عام وخمسة أعوام، وبالأخص في المناطق الريفية؛ حيث تقع 70% من حوادث الخطف لانخفاض المستوى الأمني هناك، وهو ما يشير إلى انعدامه وليس فقط انخفاضه، كما يشير أيضًا إلى الأمن الذي يشعر به المجرم للتجرأ في تلك الأماكن المعروفة بتقارب سكانها، وإمكانية الكشف بسهولة عن وجود غرباء بينهم.
ولم يقف الأمر عند هذه الظاهرة وهذا الحد، فعلى الرغم من أن الخطف من أسوأ الظواهر التي يواجهها المجتمع اليوم، إلا أن ضعف تنفيذ القانون أعطى الفرصة لكل من تكمن بداخله نزعة عنف وإجرام أن تظهر ويستغلها أيضًا تحت أي مبرر، وكان منها إدمان وتجارة المخدرات التي عانى منها المجتمع لسنوات في الثمانينيات؛ نظرًا للتوترات السياسية الداخلية آنذاك، ولكنها وعلى الرغم من ذلك كانت أقل انتشارًا مما هو عليه الوضع اليوم، حيث كان الإدمان يقتصر قديمًا على فئة الشباب، وعلى بعض الطبقات الاجتماعية، أما اليوم فأصبح الإدمان عادة بين أغلب فئات المجتمع، ولكل فئة أنواع من المخدرات تناسب مدخولهم المادي بدءًا من الحشيش وانتهاءً بالترامادول، ولم يمنع الوضع الاقتصادي المتدني للغالبية العظمى من المجتمع أن يتورط في ذلك، وأن تبلغ نسبة الإنفاق على المخدرات 26 مليار جنيه سنويًّا بحسب المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وصندوق مكافحة المخدرات، وهو الرقم الذي ساهم فيه الفقراء بشكل كبير قبل الأغنياء؛ حيث إن تم توجيه إنفاق تلك الأموال في وجهاتها الصحيحة لنهض المجتمع بالتأكيد وخرج الكثيرون من دائرة الفقر والجهل، وبالأخص أولئك الذين فضلوا إنفاقها على المخدرات وحرمان أبنائهم من التعليم لاعتباره عبئًا يثقل كاهلهم، وهي النتيجة التي تعيدنا إلى نفس الأسباب مرة أخرى من تدهور التعليم الذي أدى إلى غياب الوعي بشكل كبير، واهتراء القوانين التي لا تحكم تاجر أو حتى مدمن لتتيح السوق المناسب لتلك التجارة وغيرها؛ فارتفعت بذلك نسبة الاتجار بالمخدرات إلى 400 مليار جنيه سنويًّا، كما وصل معدل الإدمان إلى 2.4% من السكان، ومعدل التعاطي 10.4% لتتخطى مصر بذلك المعدل العالمي في الإدمان والتعاطي، إضافة إلى 80% من الجرائم غير المبررة التي تقع تحت تأثير المخدر.
ومع هذه المعدلات المرتفعة والعدد الهائل من المغيبين والمنتشين من المجتمع، كان لا بد أن تحقق الجرائم الأخلاقية أرقامًا قياسية، وهو ما تمثل بالفعل في ظاهرة التحرش التي أصبحت سلوكًا اعتياديًّا بين الشباب والمراهقين، والحديث عنها أصبح لا يتجاوز إطار العادة لا الجريمة، وهي الظاهرة التي لا تتصدى لها الدولة وتركز جهودها عليها سوى في المناسبات العامة فقط؛ حرصًا على عدم إثارة الغضب الشعبي وتسليط الضوء على القضية مرة أخرى رغم عدم غيابها من الأساس حيث ما تلبث أن تتجاهلها سريعًا بعد انقضاء المناسبة دون عقوبة حقيقية تردع أصحاب تلك السلوكيات، فعلى الرغم من انتشار الظاهرة بشكل كبير منذ عام 2011 ، إلا أن أول تشريع لقانون خاص يجرم التحرش كان عام 2014، والذي ينص على عقوبة المتحرش إما بالسجن 6 أشهر وبحد أقصى سنة، وإما غرامة مالية تبدأ من 3000 جنيه، ولا تزيد عن 5000 جنيه.
وهو ما يعد استهانة بحقوق المرأة، وبحجم الجرم نفسه، وتشجيعًا على تكرار ذلك، في حين تعتبر أقصى عقوبة للتحرش في القانون الأمريكي هي السجن مدى الحياة وغرامة قد تصل إلى ربع مليون دولار، والفرنسي عامين و30 ألف يورو، وفي السعودية كدولة عربية 5 سنوات ونصف مليون ريال غرامة، مع تطبيق تلك الدول العقوبات بالفعل وليس اعتبارها نصوصًا ينتهي دورها بوقوع التصالح، ولا يعتبر موقف جزء كبير من المجتمع أفضل حالًا من الدولة من حيث النظرة السلبية والخاطئة للقضية وضحاياها، بما يؤدي في النهاية بأغلب أصحاب البلاغات والشكاوى المقدمة بالتنازل عنها، أو دفع الجاني الغرامة المالية المقررة عليه وانتهاء الأمر عند ذلك الحد، ليتكرر الأمر مرات عديدة بعد ذلك ما دام بإمكانه تدبر مبلغ الغرامة، مما أفضى إلى احتلال مصر المرتبة الثانية عالميًّا في نسبة التحرش بعد أفغانستان في عام 2012، في حين وصلت نسبة التحرش تجاه القُصّر من عمر 13- 17 في عام 2014 إلى 49.5% كما تتعرض في المجمل 64.1% من السيدات إلى ذلك، وهي الأرقام المرصودة فقط لعدم اعتراف الكثيرات بتعرضهن لهذا الأمر.
وبالتزامن مع انتشار تلك الجرائم، وحتى تكتمل معاناة المجتمع بمهاجمة العنف والفساد له من كل حدب وصوب، انتشرت على نطاق واسع جريمة ما زالت تعد في قانون العقوبات المصري جنحةً، بينما تعاقب عليها الدول الأخرى كجناية، وهي الأغذية الفاسدة التي وإن دلت فإنها تدل على فساد الضمائر إلى حد مزري، حيث تعتبر تلك الجريمة الأقرب من حيث التأثير إلى القتل منه إلى الغش، باعتباره سمًّا تظهر نتائجه على المدى البعيد، أما القتل فيكون في الحال ولكن النتيجة واحدة وهي الموت أو المرض المميت، حيث وصلت نسبة السرطان في مصر إلى أكثر من 100 ألف حالة إصابة جديدة سنويًّا بخلاف الحالات التي ما تزال تحت العلاج منذ سنوات والحالات الميؤوس منها، وقد امتدت تلك التجارة إلى أغلب المواد الاستهلاكية تقريبًا من لحوم وخضروات ومياه وحليب أطفال ومواد غذائية معلبة، فبحسب تصريحات عميدة المعهد القومي للتغذية زينب بكري أن «وضع المصريين اليوم في حالة احتضار بسبب تفشي المأكولات المهرمنة والمسرطنة التي تغزو الأسواق»، حيث تبلغ حجم تجارة الأغذية الفاسدة في مصر حاليًا ما بين منتج في الداخل أو مستورد بعد انتهاء الصلاحية من الخارج، وبالتحديد أوروبا وآسيا 25 مليار جنيه سنويًّا، حيث تمتلئ مصر بما يعرف بمصانع بير السلم، بالإضافة إلى 20 ألف مصنع أغلبها دون ترخيص، والمسجل منها فقط 4000 وما يتم مراجعته منها 2000 مصنع دون مراقبة فعالة لشروط ومواصفات الجودة، أو عمليات التخزين على الرغم من وجود أكثر من 18 جهة رقابية، إلا أن أغلبها ليس لها تأثير في الحقيقة، ولا تتعدى مجرد وظيفة حكومية حيث يعاقب القانون على الأغذية الفاسدة بـ 500 جنيه غرامة في حال كان يملك البائع ترخيصًا، أو 5000 جنيه إن كان لا يملك، ليعاود ممارسة نشاطه الذي بدأه مرة أخرى ويحصد مزيدًا من الأرواح.
وتعد هذه الأمثلة من الجرائم والظواهر السلبية ليست أسوأ ما قد يحل بمجتمع نتيجة الإهمال وغياب القانون، بل هناك ما هو أسوأ من ذلك، وهو ما لا يستحيل حدوثه، وخاصةً في ظل الضغوطات الدائمة التي يتعرض لها المجتمع المصري سياسيًّا واقتصاديًّا من فقر وبطالة، واجتماعيًّا من فساد وتدهور للبنى التحتية لأغلب المرافق والخدمات، فكما كانت تلك الجرائم دخيلة على المجتمع يومًا ما، وأضحت بعد ذلك جزءًا من السلوك العام، يمكن لأي ظاهرة أخرى أن تمتد إلى المجتمع ويتقبلها وتنصهر فيه، وذلك لغياب المعايير التي من شأنها أن تحقق التوازن، وتحافظ على ثبات الفرد في مقابل آليات الضغوطات تلك، وهي القيم والمبادئ الأخلاقية التي تعلو بالفرد في ظل انهيار محيطه، أو على أقل تقدير تهذب من رد فعله إزاء ذلك، وهو ما يستدعي إلى جانب مواجهة الظواهر الحالية بنوايا جادة للإصلاح أن يتم مواجهة ومحاربة أي بوادر لظاهرة جديدة على نفس السياق، وعدم الاستهانة بنتائجها المستقلبية وتراكم آثارها على المدى البعيد، وانتظار أن تصل إلى أوج انتشارها ثم نفشل في حلها كما هو حاصل الآن، وكما يحدث دائمًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست