بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فرض حزمة من العقوبات الاقتصادية على روسيا إبان الأزمة الأوكرانية، والتي استخدمت فيها روسيا قوتها العسكرية لفرض أمر واقع بقوة السلاح في تحد علني للغرب، واستمرت سياسة “عض الأصابع” بين الغرب وروسيا من عقوبات اقتصادية متجددة من الأول، واستمرار الأخير في دعم النظام السوري والإبقاء على تحالفه مع إيران من ناحية أخرى.
إلا أن المتابع الجيد للأحداث في الأيام الأخيرة يجد أن الأمور تتخذ منحى دراماتيكياً مع كل يوم، إذ هبطت أسعار البترول إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من خمس سنوات لأقل من 60 دولارًا للبرميل، مما أثر بشكل كبير جدا على حالة الاقتصاد الروسي، والذي يعتبر تصدير النفط أحد أهم دعائمه، ومع استمرار العقوبات الاقتصادية على روسيا، ومع استمرار الهبوط السريع في أسعار النفط مع رفض الدول المصدرة للنفط “أوبك” تقليل المعروض من الإنتاج – كما يطلب الجانب الروسي – تجد روسيا نفسها مقبلة على أزمة اقتصادية طاحنة.
في السادس عشر من هذا الشهر سجل الروبل انخفاضًا تاريخيًا أمام الدولار، إذ سقط الروبل أكثر من 13% (72.6 روبل يساوي دولارًا واحدًا) وهوت بورصة موسكو لأكثرمن 14% برغم أن البنك المركزي الروسي قد أنفق أكثر من 75 مليار دولار في محاولاته اليائسة لإنقاذ العملة الروسية دون فائدة، حيث فقد الروبل أكثر من 60% من قيمته مع استمرار قرار دول الأوبك بعدم خفض المعروض برغم الانخفاض الشديد في الأسعار بضغوط من الدول العربية بالمنظمة، فالدول العربية بالمنظمة تمتلك احتياطات نقدية ضخمة جدا تجعل في إمكانها استيعاب انخفاض الأسعار لفترات طويلة، وفي سبيل ذلك تحاول ألا تخسر أسواقها وخصوصا في آسيا من ناحية، ومنافستها الشرسة مع شركات النفط الصخري الأمريكي من ناحية أخرى.
وتخوض دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، حربًا غير علنية مع منتجي النفط الصخري الأمريكي، ففي السنوات القليلة الماضية استطاعت الولايات المتحدة استخلاص كميات هائلة من النفط والغاز من الطبقات الصخرية، مما جعلها – في حال نجاحها – في غير حاحة لاستيراد النفط من الخارج في غضون عدة سنوات، بل وربما تحولها لدولة كبرى في تصدير النفط والغاز إذا استمر زيادة الإنتاج للوقود الصخري بهذه المعدلات المطردة.
ويواجه منتجو الوقود الصخري مشكلة رئيسية، وهي أن التكلفة الحالية لاستخراج برميل االنفط الصخري مرتفعة جدا قد تصل إلى نحو 50 إلى 75 دولارا للبرميل، ما يعني أن الأسعار الحالية للنفط واستمرار هبوطها لا يحقق أي جدوى اقتصادية لاستمرار إنتاج الوقود الصخري، وربما توقف الاستثمارات في هذا المجال بفعل أسعار السوق، وهذا ما يخدم بصورة مباشرة الدول الكبرى المنتجة للنفط مثل السعودية ودول الخليج العربي، وهو ما يفسر استمرارهم في ثبات المعروض من النفط بالأسواق برغم هبوط الأسعار، وهو ما يضمن لهم التحكم الكامل في أسواق النفط والحفاظ على أسواقها وخاصة في آسيا.
إلا أن بعض المحللين قد عزوا إصرار الدول العربية لثبات الإنتاج برغم انهيار الأسعار إلى جوانب سياسية خاصة بالضغط على روسيا لتغيير موقفها المساند للنظام السوري، وربما جاءت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا للنقاش حول تلك القضية، وخصوصًا بعدما زار أنقرة مسئولون من إنجلترا وإيطاليا بعد زيارة بوتين، جعلت تكهنات تبرز على السطح حول إمكانية اتفاقات بوساطة تركية حول الأزمة السورية يتراجع فيها – ربما – الجانب الروسي عن موقفه المساند لبشار الأسد.
من ناحية أخرى لا تزال إيران في مفاوضاتها الجارية مع الغرب حول برنامجها النووي، ما يعني مزيدًا من التقارب بين إيران والغرب، مما سيؤثر بشكل مباشر على قضايا حيوية بالمنطقة مثل الأوضاع في العراق، ومساندة إيران للنظام السوري، وموازين القوى في لبنان المشتعل. هذا التقارب لا يأتي على هوى دول الخليج العربي، والتي تخشى من وجود قوة إيرانية شيعية سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وغير معروف حتى الآن وضع العلاقات الخليجية الإيرانية في حال إبرام الاتفاق بين إيران والغرب.
لا تزال الخلافات قائمة بين تركيا والولايات المتحدة حول قتال “داعش”. تريد الولايات المتحدة من تركيا المشاركة في تدخل عسكري مباشر ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وتصر تركيا على إزاحة بشار الأسد من سدة الحكم أولا في سوريا باعتبار وجوده سببًا رئيسيًا في غياب السلام بالمنطقة. تريد تركيا من التحالف عمل منطقة عازلة لتوفير ملاذ آمن للاجئين السوريين من خلال حظر الطيران بالمجال الجوي السوري، وترى الولايات المتحدة أن مثل هذا الفعل يجعلها في مواجهة مباشرة مع نظام الأسد، وهو ما لا تعطيه أولوية في الوقت الحالي في ظل نشوب القتال مع تنظيم الدولة الإسلامية. يزور جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكي أنقرة لمحاولة تغيير الموقف التركي، ولكن دون جدوى. تركيا أصبحت لاعبًا رئيسيًا في الملف السوري والإيراني والعراقي والروسي.
السؤال الذي يطرح نفسه؛ أين مصر من كل ما يجري؟
اعتبرت وسائل الإعلام في الكوكب المصري الشقيق أن هذه الأحداث محض هراء، وقامت بالتركيز على ما هو أهم بمراحل من كل هذا العبث، ففي الحلقة الأخيرة من برنامج “أراب أيدول” رقص الحاضرون على أغنية “بشرة خير” ولم يشاركهم الملحن “حسن الشافعي” في رقصهم. كيف يجرؤ حسن الشافعي على هذا الفعل الفاضح غير الوطني؟ كيف هانت عليه نفسه أن يستمع للأغنية الوطنية العظيمة “تسلم الأيادي” دون أن يتفاعل معها على واحدة ونص؟ فلتذهب أسعار النفط إلى الجحيم، ولتذهب روسيا إلى الجحيم، وليذهب الصراع في الخليج العربي الذي لا يفصلنا عنه سوى بحر صغير إلى الجحيم، ودعونا ننقاش هذه المهزلة الوطنية العظيمة. كيف يجرؤ هذا الرجل على تلك الأفعال الإخوانية الإرهابية؟!
ينتشر إعلان عن حلقة “صبايا الخير” الجديدة في وسائل الإعلام. يقول الإعلان أن هذه الحلقة هي أفضل حلقات البرنامج في تاريخه، ويبدو أصوات صرخات فتاة صغيرة تتحدث مع مقدمة البرنامج “ريهام سعيد” بصورة غير مألوفة. يترك المصريون العالم من حولهم يموج بالاضطرابات. يتركون تقاربًا إيرانيًا مع الغرب، ويتركون تحركات روسية مكثفة لإنقاذ اقتصادهم الذي سيؤثر تبعات انهياره على كل شيء. يترك المصريون تحالفات تسقط وتحالفات تقوم ضد نظام بشار الأسد، وتحركات دولية خاصة بالأوضاع في ليبيا، يتركون كل هذا الهراء لمتابعة ما هو أهم بمراحل. إنها علاقة الجن بالإنسان في برنامج ريهام سعيد!
في الكوكب المصري الشقيق لن تجد أبدا في وسائل الإعلام أي نقاشات أو مقالات عن تأثير الأوضاع الاقتصادية العالمية على البلاد والعباد. لن تجد مثلا من يتحدث عن الاستفادة من الهبوط الشديد في أسعار النفط – وأنت الذي تحولت لمستورد صاف للنفط منذ 2005 – في تقليل عجز الموازنة، أو الاستفادة من فروق الأسعار في البدء في إنشاء محطات كهرباء جديدة مثلا للتغلب على عجز الكهرباء الحالي، بل إنك ستصادف في الأخبار قروضًا جديدة للحكومة من البنوك – وياللمصادفة – في نفس توقيت صرف فوائد أول ثلاثة أشهر لشهادات قناة السويس!
في الكوكب المصري الشقيق لن تجد أي تأثير يذكر على أسعار الأسمنت والحديد، والتي انخفضت أسعارها عالميًا بفعل هبوط أسعار البترول، بل ولن تجد أي تأثير كذلك على أسعار الوحدات السكنية الآخذة في الارتفاع في كل يوم برغم هبوطها في باقي أرجاء الدنيا، والأدهى من ذلك أنك ستشاهد حكومتك في موقف المتفرج وكأن الأمر لا يعنيها!
أخبار مثل “القبض على شاب وفتاة بالمترو بعد الاشتباه بهما لتحدثهما الإنجليزية”.
ومثل “ميكروباص يصطدم بطائرة بمطار القاهرة ونقل السائق إلى المستشفى”.
مثل تلك الأخبار وغيرها لن تصدق حدوثها حتى في أكثر أفلام جيم كاري كوميدية، ولكنك ستألف سماعها طالما كنت مواطنًا بالكوكب المصري الشقيق.
هذه هي الأخبار التي يجب أن تشغل الرأي العام حقا. فأخبار مثل غلق “قهوة للملحدين” ومثل القبض على رواد حمام بوسط القاهرة لاتهامهم بممارسة الشذوذ (والدليل أنهم وجدوا عرايا بداخل هذا الحمام التركي!) لا شك أنك بالتركيز عليها وعلى غيرها، مثل قضية فتاة “ملبوسة” بالجن والعفاريت وجعلها قضية رأي عام فأنت بذلك تكون قد وفرت فرص عمل جديدة للشباب، وأنك بإبراز صور رواد حمام عرايا والحكم عليهم حتى من قبل أن تبدأ القضية فإنك بذلك تستطيع القضاء على مشكلات الفقر والمرض بالمناطق العشوائية! ذلك من المعروف من العته بالضرورة!
ربنا أخرجنا منها سالمين غير مفتونين.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست