في مسرحية (Marat/Sade) لبيتر فايس، التي تتناول علاقة الجنس بالتاريخ، وعلاقة الذات الثورية الهائجة بالثورة الموضوعية، يظهر مؤدي دور شخصية الفيلسوف الفرنسي الماركيز دو ساد ليسأل “جان بول مار” كل حين: “ما الثورة دون جماع؟” أي “ما الثورة الموضوعية دون إرواء للذات الفردية متمثلة في اللذة الجنسية؟”(1).
يلفت هذا السؤال الماركيزي أنظارنا إلى الغايات العميقة؛ التي يتواطأ الجميع على إنكار كونها من الدوافع الأساسية المحركة للفعل الثوري، والدافعة لاستكماله، والدافعة أيضًا لاختيار التفاهة ردًّا على ما نعتقد أن الثورة خذلتنا فيه في أحيان أخرى.
بالرغم من أن كارل ماركس وسيجموند فرويد قد كشفا لنا منذ سنوات طويلة أن الإنسان ليس في مركزية نفسيته وليس في مركزية وعيه، وطرحوا بذلك – للنظر بصورة جذرية- الإيمان بتحكم الفاعل في ذاته(2) ، إلا أن التصورات المثالية عن الوعي ما زالت تسيطر علينا رغم فداحة كذبتها، وحتى في أوج اللحظات الثورية في انتفاضات الربيع العربي، كانت التصورات المثالية الاختزالية تحكمنا ونحن ننظر إلى أنفسنا وإلى من يقفون على المنصات ونحملهم على الأعناق ليهتفوا، وإلى هؤلاء الذين اعتلوا المنابر بعد ذلك بوصفهم شباب الثورة.
يبدأ الأمر عادة بتركيب الصور التبسيطية المثالية، وينتهي في نهاية المطاف إلى منح حق الوصول للمكاسب الجوهرية من الثورة لمجموعة صغيرة من البشر تسمى النخبة، ثم ينزوي من لم يربحوا ولن يربحوا بعيدًا؛ منهمكين في تصورات صوفية زائفة عن الحياة، ومن ثم تستفيق الجماهير التي لم تربح على ديكتاتوريتين؛ ديكتاتورية السلطة العسكرية الرافعة لرايات القومية المزيفة من جديد؛ والتي استغلت بدورها غباء النخب الثورية الديكتاتورية التي رفعتها جماهير الثوار المخذولين دائمًا إلى المنصات في الميادين المصرية، لتقوم تلك النخب بدورها باقتدار في تحريف مسار الثورة عن أهدافها الجوهرية لصالح أهداف شكلية لا تحقق سوى المصالح الذاتية جدًّا للنخب.
لم تكن تلك الثورة ثورة شعب كما يلوك البعض، فلا يوجد مفهوم في علم الاجتماع يسمى “ثورة شعب”، ومن الخطأ أن يستخدم مثقف تلك الكلمة المضللة، فهذه الثورة هي ثورة يتركز في القلب منها أناس من نفس المرحلة العمرية؛ يتشاركون فرصًا متقاربة للغاية في الحب والجنس، ويتشابهون في أوهامهم، وفي لغتهم التي يطورونها، وفي أحلام يقظتهم التي تجعلهم يبتسمون كالبلهاء في شوارع المحروسة وقلوبهم تغص بالألم، وعقولهم تأبى أن تستسلم للأيديولجيا التي يصدرها المجتمع بداية من أسرته النووية، ظنًّا منه أنها ستوفق الإنسان مع الحياة، في حين أنها لن توفق سوى بين الإنسان ورغبة الدولة في ترشيد الفرد وفق النموذج الذي تريده.
لم يكتف هؤلاء المتشابهون فقط بتكريس قلة منهم بشكل يجعل تلك القلة تخرج عنهم، وتصطف في صفوف السلطة، بعد أن حققت كل المكاسب الثورية الجوهرية لنفسها؛ بداية من التحقق الجنسي بصفة خاصة وصولًا إلى تحقيق الذات بصفة عامة، ولم يكتشف المتشابهون ما حدث حتى تلك اللحظة بعد انهيار الثورة بعامين، وهو نذير كارثة أكبر من الانهيار ذاته، وإنما أيضًا سلموا لوقت طويل لوحة التحكم في مسار ثورتهم لأناس يكبرونهم بنصف قرن من الزمان، لا يفهمون حلمًا واحدًا من أحلام يقظتهم، وكانت الفاجعة كبيرة حين اكتشف المخذولون عبر التسريبات التي أصدرها عملاء الدولة ضد النخب الثورية، إلى أي مدى كانت النخبتان (الشابة، والعجوزة) تافهتين، ومنفصلتين عن حياتنا اليومية.
اختلفت النخب حول كل الأمور تقريبًا منذ الثورة، لكنها اتفقت على شيئين ثابتين لا ريب فيهما، الأول: هو أن تكون الخلافات الحادة والمشاجرات، دائمًا على كل ما هو عرضي ولا يمت بأدنى صلة للحياة اليومية، والثاني: والأهم هو الاتفاق المبرم ضمنيًّا على رفض التخلي عن الميكرفون تحت أي ظرف، وعبر الميكرفون المحتكَر، الذي يثق في سذاجة الثوار، استطاعت النخب أن تغير آراءها بين ليلة وضحاها لتجد آذان المستمعين الطيبين السُذّج ناسية لما قد مضى من تفاهة، ومتحمسة لما هو قادم من تفاهة أيضًا، فالوُدعاء الطيبون يظنون بينهم وبين أنفسهم أنهم قادرون على أن يفرغوا كبتهم داخل ساحات المعارك التافهة التي ترسم النخبُ حدودها.
لا نتحدث هنا عن مؤامرة محاكة ضد جماهير الثوار البسطاء، الذين لم يستطيعوا حتى الآن أن يعبروا بصدق عن أحلامهم الحقيقية المخالفة لتلك المزيفة التي تصدرها وتتصارع عليها النخب، لكننا نتحدث عن ظروف موضوعية تصنع الوعي، وتحكم المسكوت عنه وما هو مباح قوله، ونتحدث عن النخب الشابة التي تم تكريسها بعد أن ازدادت فرص الحياة والحب والجنس عندها عبر تكريسها، وبذلك انفصلت عن الأحلام المكتومة للجماهير، ولم تعد تلك النخب قادرة بعد على تفهم مشاعر فتاة منقبة تمت صناعتها أيديولوجيًّا، تتمنى فقط ألا يأتي راغب الزواج فيها ليشاهدها في الرؤية الشرعية ثم ينسحب من مشروع الزواج في صمت، كناية عن عدم رضاه من دمامتها.. لن ترى النخب الثورية في هذه الفتاة سوى عدو يخرج في مظاهرات عبثية ليطالب بالخلافة، لكنها في الحقيقة لا تبحث سوى عن حياة جديدة تتوفر فيها ممكنات الحياة وتنعدم فيها الحسرات اليومية.
لو أن هناك درسًا ينبغي توريثه بعد هزيمة انتفاضة يناير 2011، لن يكون هذا الدرس سوى: لا ترفع أحدًا على المنصة ولا على الأعناق ولا تعطي إلى أحد ميكرفونًا، فمن يعطي ثائرًا ميكرفونًا خاصًا كمن يعطي التفويض للدبابة، “الميكرفون ملك مشاعي للثورة ومهمشيها”.
إن الحديث عن الدوافع الحقيقية للثوار، في الجلوس بالميدان لساعات طويلة وقت السلم، والهروب منه وقت المعارك الحقيقية الخاسرة، والذهاب لمحاضرات وندوات تثقيفية لا تفيدهم موضوعاتها بأي شكل في حياتهم اليومية طوال سنوات الانتفاضة قبل نكستها، وكيف حاولوا أن يكسروا خلال هذا المجال الزمني ما رسخته السلطة والأيديولوجيا المزروعة في نفوسهم عن الجنس على استحياء، في حين تشكلت في هذا السياق، وبعلاقة معقدة معه، نخبٌ استأثرت بمزايا تلك الشروخ في الأيديولوجيا هو حديث شائك، لأنه يدخل فيما حاولت النخب الثورية إبعاد النقاش الفعّال عنه.
إنه مناقشة الأهداف العميقة للثورة والمسكوت والمغيب دائمًا عن ساحتها (التحقق الذاتي والملكية الخاصة والجنس)، وهو نقاش خطيرٌ، كذلك النقاش الذي نحتاج اليوم استعادته؛ النقاش الذي خاضه فيلهلم رايش في القرن الماضي، حين رأى أن الثورة السياسية الحقيقية لن تتحقق إلا بإسقاط الكبت الجنسي، وقد ذهب رايش بعيدًا في ذلك ليرى في تحليلاته على سبيل المثال، أن إخفاق البلاشفة في إنجاز الشق المتعلق بإسقاط الكبت من ثورتهم، هو الذي أجهض مشروعهم(3).
إذ كان رايش يرى أن ثورة جنسية ستتفجر قريبًا ولن توقفها قوة على وجه الأرض، فالثورة الجنسية في دراسات رايش لم تكن مجرد “مطلوبة” علاوة على الثورة الاقتصادية والسياسية، بل على العكس، فالثورة السياسية نفسها في فكر رايش محكوم عليها بالفشل إذا لم يصاحبها إلغاء الأخلاقيات القمعية (4)، والقطيعة المعرفية مع الأيديولوجيا السائدة التي تصنعها السلطة، فتعريف الحرية عند رايش هو نفس تعريف الصحة الجنسية.
وجد رايش أن النتيجة المشئومة للثورة الروسية جسدت هذا الجدل. فبالنسبة له كان الاتحاد السوفيتي قد اتخذ خطوات جادة في اتجاه الإصلاح الجنسي على وجه الخصوص، عبر التجمعات الاشتراكية التي قوضت إلى مدى محدود، سلطة الأسرة ذات النظام الأبوي، بيد أن الإصلاحات في رأيه كانت مؤقتة للغاية حيث ظلت المدرسة -كهجاز أيديولوجي للدولة يشكل الفرد- “مُنكِرة للجنس”. ومن ثم كانت تحول الديمقراطية الاجتماعية للينين إلى ديكتاتورية ستالين نتيجة حتمية؛ فبنية الشخصية الخاضعة التي تميّز بها عامة الروس ظلت ثابتة لم تتغير(5).
تنوعت التحليلات والقراءات المتعلقة بالثورة الروسية كنموذج، حتى تلك التحليلات التي سبقت تولي ستالين والتي توقعت فشل الثورة الاشتراكية وتحولها إلى قيصرية بيروقراطية، ومنها تحليلات بليخانوف وماكس فيبر وجرامشي وحتى روزا لوكسمبورج، والتي ركزت على مخالفة الثورة الروسية لمنطق كتاب رأس المال نفسه، وأن بلدًا لم تنشأ فيه رأسمالية متطورة لا تستطيع أن تنجز ثورة اشتراكية وأن النظام السياسي سيتحول إلى أوتوقراطية مطلقة (6)، لكن يبقى تحليل رايخ ومقاربته الجنسية في غاية الأهمية إلى جانب تلك المقاربات.
نحن نحتاج أيضًا عند إمعان النظر في الانتفاضات العربية التي خسرت جولتها الأولى ألا نغفل النظر إلى المسألة من زاوية مشابهة إلى جانب باقي الزوايا، نحن لا نروم هنا إلى القول بأننا نحتاج من الأجيال اللاحقة في الجولات القادمة للربيع، أن تهتف بشعارات مأخوذة من دراسات “رايش” كما فعل الطلاب الثائرون عام 1968 حين كانوا يرشقون قوات الشرطة بطبعات من كتاب “السيكولوجيا الجماهيرية للفاشية” لرايش، ولا نقول كما كان الأساتذة في جامعة فرانكفورت يقولون للطلاب الشباب في المظاهرات “اقرؤوا رايش وتحركوا على هذا الأساس” (7) لكن ما نريده هو أن تمتلك تلك الأجيال القادمة القدرة على التعبير عما يريدونه حقًّا، ويرون فيه أفق الحياة الجديدة؛ دون أن يسلموا أصواتهم لنخب لا تعبر سوى عن مصالحها الذاتية للغاية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست