إن اهتمام رضوى عاشور بالتاريخ، والذي يظهر جليًا في أعمالها، لم يكن أمرًا وليد المصادفة، بل يرجع إلى تأثرها كإنسانة بكل الأحداث التي مر بها العالم العربي، لذلك صار التاريخ مادة حاضرة في روايات عاشور ونجدها تجسده في روايتها ثلاثية غرناطة عام 1994. في هذه الرواية الملحمية ذات الثلاثة أجزاء تتناول عاشور فترة مؤلمة من تاريخ المسلمين عقب سقوط غرناطة والأندلس عام 1492 حتى عام 1601 حين قام الملك فيليب الثالث بطرد المورسكيين، أي أهل الأندلس الذين نُصِّروا عنوة. كتبت بعد ذلك رواية قطعة من أوروبا عام 2003، وفيها تتتبع الأحداث التاريخية التي شهدتها مصر في حقبة زمنية تمتد على مدار 200 عام، وتؤرخ أيضًا ليهود مصر ولبدايات الحركة الصهيونية، وتتعرض لاقتحام مخيم جنين فـ«تجول بك بين شهادات أحد المشاركين في اقتحام مخيّم جنين، وتنقلب بك لشهادة أم أحد الشهداء».
نستطيع إرجاع اهتمام عاشور بالكتابة عن التغريبة الفلسطينية إلى كون زوجها هو الكاتب الفلسطيني مريد البرغوثي الذي تأثرت به عاشور، ليس فقط على المستوى الأدبي، لكن أيضًا على مستوى القضية الفلسطينية. فقد عايشت عاشور الشتات مع زوجها الذي جاء إلى مصر للدراسة والتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة وتخرج في قسم اللغة الإنجليزية فيها، فبعد إغلاق إذاعة فلسطين في القاهرة تم القبض على مريد وترحيله خارج مصر عام 1977 «ومن ذاك التاريخ حُكِم على العائلة بقانون الشتات، بدأت رحلة التشرذم، والمعاناة ففرقت بينهم الجغرافيا، فكانت لقاءات أفراد الأسرة لاحقًا خارج مصر، وفي دول عدة أثناء العطلات، ومن خلال الثقافية التي كان يشارك فيها الزوجان». فقد عايشت عاشور القضية الفلسطينية وتأثرت بها حتى النخاع، ولذلك شعرت أن مهمتها ككاتبة هي تصوير معاناة الشعب الفلسطيني وتوثيق المذابح التي تعرض لها.
توفيت رضوى عاشور عام 2014 بعد صراع مع المرض وكانت آخر أعمالها الروائية رواية الطنطورية، فهي حتى آخر عمرها اختارت جانب صاحب الحق ووثقت لقضيته فكانت الصوت الذي انُتِزع منه.
نستطيع أن ندرج رواية الطنطورية تحت مسمى أدب المقاومة، رغم عدم استقرار الأدباء والنقاد على تعريف محدد لأدب المقاومة، إلا أن أدب المقاومة تكمن قيمته التاريخية في تسجيله للأحداث وحفظها كمرجعية تاريخية واجتماعية ونفسية يمكن الرجوع إليها . فرواية الطنطورية تحمل في طياتها هذا التعريف حيث عمدت الكاتبة إلى توثيق كثير من الأحداث التي مر بها الشعب الفلسطيني من نكبة 48 مرورًا بالمقاومة المسلحة حتى الانتفاضة. لم تهتم فقط عاشور بالجانب التوثيقي التاريخي بل امتدت رغبتها في التوثيق إلى الجانب النفسي والاجتماعي الذي خلفته الأحداث في نفوس الفلسطينيين. فعاشور تغوص بالقارئ في نفوس أبطالها لترسم بالكلمات لوحات تعكس المعاناة، والألم، والصدمة، والإنكار، والمقاومة، كل تلك المشاعر التي صاحبت الشعب الفلسطيني في مسيرته من الاستقرار في الوطن إلى الخروج والشتات.
ولكن مع قراءتنا للرواية يتبارد إلى ذهننا سؤال مُلِّح، وهو لماذا اختارت عاشور مذبحة قرية الطنطورة فضلًا عن المذابح الأخرى التي ارتكبتها قوات الاحتلال الصهيوني خلال أحداث النكبة؟
الطنطورة واختيار عاشور لها
تقع الطنطورة على الساحل الفلسطيني وتبعد 24 كيلومترًا إلى جنوب حيفا، بالقرب من بلدة صفورية وقيسارية . في الليلة بين 22 و23 مايو 1948 انقضت قوات من الكتيبة الثالثة من لواء ألكسندروني من عصابات الهاغاناه على قرية الطنطورة لاحتلالها وطرد سكانها. وبعد مقاومة عنيفة وقعت القرية في أيدي الكتيبة الصهيونية فارتكبوا فيها مجزرة بالعُزَّل من أبنائها لا تقل بشاعة عن مجزرة دير ياسين ومجازر أخرى كثيرة.
ظلت مجزرة الطنطورة في طي النسيان لسنوات طويلة، ولم تستحوذ على اهتمام الباحثين كما فعلت مذبحة دير ياسين، حيث بقيت فقط محفورة في ذاكرة من عايشوها يحملونها معهم أينما ذهبوا. بقي الأمر على هذا الحال حتى عام 2000 حين تقدم الباحث الإسرائيلي ثيودور كاتس بأطروحته لنيل درجة الماجستير من جامعة حيفا بعنوان خروج العرب من قرى سفح.
الكرمل الجنوبي في عام 1948
«… وهو تحقيق شامل اعتمد على وثائق عبرية تنشر لأول مرة، وشهادات شفهية من لاجئي الطنطورة الباقين في عدد من قرى الداخل، ممن التقاهم المؤلف في نطاف بحثه الميداني، تكشف لأول مرة حجم الكارثة التي لحقت بهذه القرية الفلسطينية الساحلية في ليلة 22 – 23 مايو (آيار) 1948، وفي صبيحة اليوم التالي، عندما نفذ مسلحون من لواء الكسندروني مذبحة جماعية فيها، راح ضحيتها أكثر من 250 إنسانًا كانوا مجردين من السلاح، أو أية وسائل أخرى للدفاع عن النفس».
أثار تحقيق كاتس زوبعة إعلامية كبيرة في إسرائيل، إلا أن أهمية مجزرة الطنطورة تكمن في كونها وصلت إلى المحاكم الإسرائيلية، وكانت هذه هي السابقة الأولى من نوعها في تاريخ إسرائيل التي تتم فيها تناول أحداث النكبة داخل قاعة محكمة إسرائيلية حين قام فرد من أفراد لواء ألكسندروني، الذي قام كاتس بإجراء مقابلة معه أثناء بحثه الميداني، بمقاضاة كاتس في المحاكم طالبًا تعويض يصل لمليون شيكل.
أدركت عاشور بحسها الرافض للظلم أن مجزرة الطنطورة تستحق أن تستحوذ على انتباه العالم لذلك اختارتها كأساس تنطلق منه في روايتها راغبةً في أن تنفض الغبار عن هذه المجزرة المنسية، فتعطي أهل الطنطورة صوتًا سلب منهم على مدار سنين طويلة.
التعريف بالرواية
من العنوان نستطيع أن نستشف أن الرواية تحمل بصمات الأنثى، فالطنطورية هي الشخصية الرئيسة في الرواية، نسبة إلى المرأة التي سكنت قرية الطنطورة، إنها رقية الطنطورية التي ولدت وعاشت طفولتها في الطنطورة، وطردت منها مع عائلتها وسكان القرية الآخرين، وكانت شاهدة على أحداث النكبة ومجزرة الطنطورة.
تأخذ عاشور القارئ في رحلة عبر الزمن لينتقل إلى الحياة المستقرة لسكان قرية الطنطورة التي تطل على البحر وتعتاش من الصيد. تلقي عاشور القارئ بعد ذلك مباشرةً في قلب أحداث النكبة، فنرى هذه الحياة المستقرة تنقلب رأسًا على عقب في ليلة وضحاها فتُطرد رقية مع أمها وباقي أهل القرية ليذوقوا ويلات الشتات واللجوء، ويُقتل أباها وأخواها، وترى جثثهم أمام عينيها فوق كومة من الجثث، لتعيش رقية بعد ذلك صدمة الفقد ممتزجة بمرارة اللجوء والإحساس بالغربة. تنتقل رقية وتعيش في لبنان وتشهد أحداث الحرب الأهلية وانطلاق المقاومة من مخيمات اللاجئين في لبنان، ثم رحيلها وحدوث مذبحة صبرا وشتيلا، واجتياح جنوب لبنان من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبعد ذلك تشهد أيضًا الجلاء عن جنوب لبنان وتعاصر الانتفاضة الفلسطينية، إنها ملحمة شعب بطلتها امرأة تتجسد فيها كل معاناة الشعب الفلسطيني.
مع تطور أحداث الرواية يكتشف القارئ أنه أمام سيرة رقية الذاتية التي خطتها بقلمها في دفترٍ أعطاه لها ابنها حسن، وألح عليها أن تسجل فيه ذاكرتها وشهادتها عن أحداث النكبة، وكل ما أعقبها من شتات ولجوء وحرب ومذابح ومقاومة. وكأن عاشور تؤكد هنا على أن المرأة هي حامية الذاكرة، فتظهر رقية «وكأنها الحارس الأمين على الذاكرة، وخزانة الخرائط المفقودة وكتابها الحي المسئول عن توريثها لأجيال ولدت في الشتات»، وتؤكد أيضًا على أن هذا الحرص على التوثيق هو «شكل من أشكال المقاومة لعمليات الاستبعاد والتهميش التي عانت منها النساء اللاجئات على مدى فترات تاريخية مختلفة».
اللغة في الرواية سلسة ومعبرة، ولكن أكثر ما يميز اللغة في الطنطورية هو كونها ممتزجة باللهجة الفلسطينية؛ مما أضفي عليها مصداقية وبعد ثقافي، لذلك وضعت عاشور في نهاية الرواية قاموسًا لمعاني المصطلحات الفلسطينية التي استخدمتها لتسهل على القارئ فهم الكلمات، وذلك يعتبر نوعًا من أنواع التوثيق للدارجة الفلسطينية التي لربما تندثر مع الزمن.
نهاية الرواية رمزية إلى حد كبير، ففي مشهد شديد التأثير يلتقي فلسطينيو الداخل مع فلسطيني الشتات عند الأسلاك الشائكة في الحدود بين لبنان وفلسطين، وذلك بعد جلاء قوات الاحتلال الإسرائيلي عن جنوب لبنان فتتعالى صيحات الأهالي من الطرفين لا يفصل بينهم غير الأسلاك الشائكة، ويرى فلسطينيو الشتات أرض فلسطين على مرمى البصر، وتلتقي رقية بابنها حسن وأحفادها عند الأسلاك الشائكة، فتحمل رقية حفيدتها الرضيعة، وتخلع عن صدرها مفتاح الدار في الطنطورة الذي ورثته عن أمها وتحمله معها دائمًا ملاصقًا للحم صدرها وتلبسه إلى حفيدتها، وتقول لحسن: «مفتاح دارنا يا حسن. هديتي إلى رقية الصغيرة»، وكأنها تمرر للجيل الجديد مع مفتاح الدار القضية الفلسطينية برمتها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست