تـُـبنى الحضارات البشرية على الاستفادة من علوم الآخرين وخبراتهم ثم البناء عليها وتطويرها والاستفادة منها، وكانت هذه هي طريقة انتقال الحضارات بين الشرق والغرب على مر التاريخ، ولذلك تتسابق الدول في إرسال نوابغ طلابها إلى الجامعات الكبرى ومراكز الأبحاث والدراسات العالمية للتزود من علومها ثم إفادة مجتمعاتهم منها مرة أخرى، غير أن هذه الصورة لا نجدها عندنا في مصر بل نجد العكس منها تمامًا.
فلك أن تتخيل مدى صعوبة الحصول على منحة من أو الدراسة في أي من الجامعات العشرين الأفضل في الولايات المتحدة الأمريكية مثل جامعة هارفارد أو تكساس أو كاليفورنيا. ثم تخيل حين تصل إلى هناك مدى مشقة الدراسة بهذه الجامعات والمعايير المميزة في كتابة الأبحاث وعمل التجارب ومستوى الأساتذة العلمي المرموق والمتقن.
فلو تم قبولك في هذه الجامعات، فأنت بالتأكيد طالب محظوظ جدًّا، وبالتأكيد فإن مستواك العلمي متميز للغاية لأنك سوف تنافس طلابًا من دول متقدمة مثل اليابان وأوروبا والهند والصين. ولك أن تتخيل صعوبة (الكورسات) ومدى جودة المواد العلمية التي تدرسها هناك. وغالبًا ما يخرج الطلاب من هذه الجامعات للعمل في جامعات أخرى لها مكانة مرموقة أو للالتحاق بأكبر الشركات العالمية في مجالات البحث العلمي أو التصنيع.
إذا علمت ذلك، فهل لك أن تتخيل بعد كل هذا العناء في الحصول على أعلى المراتب العلمية أنك لن تجد فرصة للتعيين في جامعة حكومية مصرية واحدة، ولن يقارن مستواك بخريجي جامعة مثل جامعة المنوفية.
أتكلم هنا عن قصة حقيقية بطلها شاب مصري نشأ في أسرة متوسطة الحال وعانى عناءً شديدًا في استكمال دراسته الجامعية في كلية العلوم جامعة القاهرة وتخرج فيها بقدير جيد جدًّا 75 %. ولكن هذا الشاب كان يملأه الطموح وحب العلم وإتقان الدراسة، وبعد انتهاء فترة الخدمة العسكرية وأداء الواجب الوطني، سعى إلى مراسلة عدة جامعات أمريكية متقدمة للحصول على منحة دراسة لاستكمال دراسة الماجستير والدكتوراه. ومع النجاح بامتياز في اختبارات القبول حصل هذا الشاب على منحة دراسة الماجستير والدكتوراه في جامعة متميزة من أفضل عشرين جامعة بأمريكا، وتميز هذا الطالب ونشر ما يقرب من خمسة وعشرين بحثـًا علميًا من ناتج أبحاث الدكتوراه وما بعدها، ولم يكتف بذلك بل ذهب لعمل دراسات ما بعد الدكتوراه في جامعة من أفضل عشر جامعات في أمريكا، وبعد جهاد علمي استمر لأكثر من عشر سنوات قضاها في تحصيل العلم ونشر الأبحاث المتميزة. قرر هذا الطالب أن يعود لخدمة وطنه ونقل ما تعلمه من علوم إلى جامعات مصر وطلابها.
وفي مقابل هذا الشاب، يوجد شاب آخر تخرج في جامعة المنوفية (أو أي جامعة أخرى في مستواها) بتقدير جيد جدًّا بتقدير 78%. وبعد الانتهاء من الجامعة قرر هذا الشاب ان يعمل في عمل ما ويقوم بدراسة الماجستير والدكتوراه بجامعة المنوفية، (وهذا ينطبق على الجامعات الحكومية الأخرى) بغرض الحصول على وظيفة في المستقبل. وكان تخرج هذا الطالب بعد حصوله على الدكتوراه بدون نشر أبحاث متميزة أو سابقة خبرة في أية جامعة عالمية. وظل يتنقل بين عمله الخاص بالتدريس في جامعة خاصة وإحدى الشركات. بل إن هذا الطالب لم يسافر لحضور مؤتمر دولي مرموق، ولا يعرف إن كان يتقن اللغة الإنجليزية وعلوم الحاسب المتقدمة أم لا. وبعد حصوله على الدكتوراه قرر أن يتقدم بأوراقه للتعيين كمدرس في جامعة من جامعات الأقاليم في مصر. (وأنا هنا لا أعيب في شخصه ولكن أتحدث عن القيمة العلمية). وبعد التنسيق والمحسوبية ينزل هو إعلان تعيين في الجرائد ليتقدم رسميًّا للتعيين.
لك عزيزي القارئ أن تفاضل بين هذين الشابين ومستوى الخبرة والتعليم وامتلاك أدوات البحث العلمي عند كل منهما. المفاجأة أن كلا الشخصين تقدما للكلية نفسها والقسم نفسه في جامعة حكومية إقليمية للتعيين لوظيفة مدرس بعد أن أعلنت الجامعة عنها. لو كنت صاحب القرار فمن تختار؟ وما الفائدة التي تعود على الكلية والجامعة من تعيين أي منهما؟ ومن سيكون عنده استيعاب أكثر وخطط تنموية تفيد الكلية والجامعة والمجتمع والدولة؟
رغم كل ما سبق، فإن الجامعة قررت أن تغض النظر عن التاريخ العلمي للمتقدمين، وأعلنت تساويهم في حصولهم على درجة الماجستير والدكتوراه وتحاكموا إلى نسبة تخرجهم في مرحلة البكالوريوس على أن يتساوى بكالوريوس علوم القاهرة مع علوم المنوفية بغض النظر عن المقررات أو مستوى التدريس في الجامعتين أو سنة التخرج. ورشحت هذه الجامعة الدكتور الحاصل على درجة مئوية أعلى في مرحلة البكالوريوس بغض النظر عن خبرة المتقدمين أو احتياج القسم أو مستوى الدكتوراه أو جودة الأبحاث أو عددها أو تخصصه. وهذا ما حدث بالفعل.
والسؤال هنا، هو كيف سيكون أداء الشاب الأخير الذي تم اختياره كعضو هيئة تدريس بعد تعيينه بهذه الطريقة وكيف سيساهم في تطوير الكلية والجامعة أو تقديم مستوى علمي وتعليمي متميز للطلاب. ولك أن تتخيل أن يكون عضو هيئة التدريس هذا لاحقـًا قد ترقى إلى درجة رئيس للقسم أو عميد للكلية أو مستشار للوزير أو في أعلى المناصب بالدولة. والخوف من أن تكون هذه الطريقة هي المعمول بها في اختيار أعضاء هيئة التدريس بالجامعات في أغلب الأحيان، وهو ما يفسر الحال التي وصلت مصر إليها.
يشعر المرء بالأسف والحسرة حين يعلم أن هذه الطريقة هي التي يتم العمل بها للتعيين في الجامعات المصرية. وبالطبع فإن هذا يتم في غياب معايير شفافة وسليمة لاختيار أعضاء هيئة التدريس في الجامعات المصرية بطريقة تضمن تكافؤ الفرص بين خريجي الدكتوراه في الداخل والخارج.
هذا الحال يقودنا إلى البحث عن إجابة سؤال هام وهو كيف تقدمت بلاد مثل الهند والصين وتايوان والبرازيل وماليزيا وإندونيسيا رغم أن من بينهم دول كانت أقل من مصر بكثير؟ لقد أرسلوا آلاف الطلاب إلى بلاد الغرب للتعلم وللحصول على الدكتوراه من أفضل الجامعات هناك، وبعد ذلك اهتمت هذه البلاد بأبنائها واستدعتهم للمشاركة في نهضة بلادهم وتطويرها. إلا أننا في مصر نطرد الكفاءات والخبرات والعلماء والباحثين الجادين. ويبقى السؤال: متى يتم وقف هذه المهزلة من تعيين الأساتذة والمدرسين في الجامعات عن طريق الوسطة والمحسوبية لا عن طريق الكفاءة والخبرة؟ وهل كل من حصل على دكتوراه يحق له التعيين كأستاذ جامعة؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست