يمر علينا اليوم تلو الآخر، يمر بكل ما له وما عليه وإن كان ما عليه أكثر. ينتهي اليوم بآلاّمه وأحلامه وأمنياته الضائعة. ينتهي على دعوة واحدة تكاد تكون بالإجماع “يا رب نسألك الرحيلَ، الهجرة”. الكل يسأل الفرار.
بينما هناك من يطلبون العكس، أينعم، هناك من يتمنون أن يلمسوا ترابها والعيش فيها، ليسوا أغنياء أو أدعياء مال وسلطة أو يعلمون من أين تأكل الكتف، أو ممن يجيدون دهن الهوا “دوكو”، أو حتى طريقة عمل البحر طحينة، بل أناس عاديون جدًّا بل وفقراء، أتعلمون من، هم الأقلية المصرية في البلقان.
بعد تفكك يوغوسلافيا وما تلاها من حروب مأساوية وختامًا بحرب كوسوفا وإعلانها دولة مستقلة معترف بها (من قبل الدول الغربية وأمريكا)، تنفس الناس الصعداء وأصبح الجميع لديه الشجاعة في الكشف والتعبير عن هويته وإثنيته المنتمي إليها، بل ونزع اعتراف الدولة بها، الأمر الذي ظهر جليًّا في كوسوفا وعلمها الذي يضم خريطة الإقليم وحوله ستة نجوم بعدد الإثنيات الموجودة بالبلد، نجمة منها تعبر عن الأقلية المصرية فيها.
تعداد المصريين هناك تجاوز المليون تقريبًا وممثلين في البرلمان الكوسوفي، ولهم أحزاب ينتمون إليها على سبيل المثال حزب المبادرة الجديدة لكوسوفا وأيضًا الحزب المصري الذي يأخذ من أهرامات الجيزة شعارًا له. يعمل معظم المصريين هناك في الأعمال الحرفية واليدوية ويسكنون في حارات فقيرة وتجمعات تميزهم عن غيرهم فهم لا يتزوجون من خارج إثنيتهم إلا نادرًا وذلك للحفاظ على عرقهم المصري الأصيل، فمن أول وهلة وعند رؤيتهم تستطيع أن تميز وجوههم كأنهم لم يغادروا أرض الأجداد أبدًا.
وبنفس هذه الوجوه ننتقل إلى مقدونيا، تلك الدولة التي بها ثاني أكبر عدد من الأقلية المصرية حيث يتجاوز عددهم الـ17 ألفًا مع اختلاف الحال، حيث لم يتمثل لهم أحد في المؤسسات النيابية على الرغم من أنهم من دافعي الضرائب، ولكن تعتبرهم الدولة أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
إلا أن الوضع قد تحسن قليلًا بعد ثورة الألبان وحملهم السلاح لانتزاع حقوقهم كاملة من الحكومة، بل والمسارعة في تعديل الدستور واعتبار جميع المواطنين في مقدونيا بمختلف أعراقهم متساويين في الحقوق والواجبات.
يتمركز معظم المصريين مسلمين ومسيحيين (ينتمون إلى الكنيسة القبطية) في مدينة أوهاريد جنوب غرب مقدونيا، مدينة رائعة الجمال حيث تحوطها الجبال وتطل على بحيرة كبيرة، يطلق عليها المقدونيون “قدس البلقان لاحتوائها على عدد كبير من المساجد والكنائس الأمر الذي جعلها توضع تحت حماية اليونسكو باعتبارها أقدم مركز ثقافي في قلب أوروبا وأكثر المناطق توترًا.
يتحدث المصريون المقدونية مع بعض الكلمات المصرية ويدخنون الشيشة، وتصنع السيدات البقلاوة على شكل أهرامات، ويحتفظ بعض المسنين بعملة نقدية قديمة بها صورة لإيزيس وأوزوريس، وأيضًا صور للزعيم جمال عبد الناصر، وكانت هناك محاولات لإصدار جريدة خاصة بهم، لكن نظرًا لضعف الإمكانيات لم تصدر صحيفة (صوت مصر) إلا مرة واحدة عام 1998، ولم يعرض لهم أي برامج تعبر عنهم إلا على القنوات المحلية وبشكل غير دوري.
لكن نصل إلى السؤال المهم “إيه اللي وداهم هناك؟”.
وللإجابة على هذا السؤال بحثنا في كتب التاريخ والأنثولجيا لكنا لم نجد ما يجزم بأصولهم المصرية ولكن تعددت الأقاويل والروايات حول أصول الأقلية المصرية في البلقان، منها ما يقول بأنهم جاءوا مستعمرين وباحثين عن الذهب مذ أيام رمسيس الثاني ومنهم من قال إن عائلات مصرية كبيرة ذهبت مع الإسكندر الأكبر المقدوني بعد خروجه من مصر وبنائه الإسكندرية حيث عادوا معه وسكنوا مقدونيا عام 331 قبل الميلاد.
وفي عصر الدولة العثمانية جلب الباب العالي الكثير من الصناع والحرفيين والأزهريين المصريين لتركيا والبلقان بالإضافة إلى الجنود المصريين للانضمام لصفوف المحاربين العثمانيين. ومع كل تلك الروايات والقصص والمناشادات لاعتراف مصر بهم – وهو ما يعزز موقفهم داخل تلك البلاد بالإضافة إلى حلم عودتهم إلى أرض الأجداد- إلا أن كل تلك المحاولات بالاعتراف باءت بالفشل، وعلى الرغم من أن كل من يرى ملامح أي شخص فيهم يجزم بأنه مصري، بل وإذا سألته سيجيبك على الفور: “أنا مصري وأبويا مصري بسماري ولوني مصري”.
إلا أن الحكومة المصرية لا تعترف بهم أصلًا، ولا تنظر بأهمية إلى الأمر، يمكن لأنه “مشربش من نيلها أو فكر يغنيلها” الله أعلم. وفي نهاية الأمر تظل المناشدات والأماني. وبين حلم الدخول والخروج.. يبقي الحال على ما هو عليه.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست