أعادت أحداث فلسطين الأخيرة إلى الواجهة تساؤلات عديدة، كان قد طرحها ناشطون ومتخصصون في فهم التكنولوجيا حول المساواة بين المجتمعات الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ عرَّت الحرب الأخيرة على غزة الشبكات الاجتماعية من غطاء حرية التعبير والديمقراطية، والذي لطالما كانت تدَّعي احترامه، وكان يلجأ المستخدمون له هربًا من الديكتاتورية؛ خاصةً بعد مضايقتها الأخيرة لداعمي القضية الفلسطينية على حساب مؤيدي إسرائيل.

الإشكالية عادت للظهور من جديد مع بدء المضايقات الإسرائيلية في القدس، إذ فوجئ ناشطون على «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستجرام» بإخفاء منشوراتهم وتعليقاتهم التي احتوت على وسوم وصور داعمة لفلسطين، كانت البداية مع فرض موقع «تويتر» قيودًا على حساب الكاتبة الأمريكية ذات الأصول الفلسطينية، مريم البرغوثي، التي كانت تدعم بمنشوراتها حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، دون أن يبرر «تويتر» سبب قيامه بذلك.

ممارسات شبكات التواصل الاجتماعي في الأحداث الفلسطينية تسببت في حالة من الغضب لدى مستخدميها في الشرق الأوسط، حتى بات حجم حالات إزالة المحتوى وتعليق الحسابات وعرقلة وصوله دليلًا واضحًا وصريحًا على الاستهداف الممنهج لهذا المحتوى.

«إنستجرام» المملوك لـ«فيسبوك» والأخير سُلط عليه الضوء بسبب ممارسات قمعية على نشطاء داعمين لفلسطين؛ إذ أزالت المنصة المنشورات التي وثقت الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينين، وحجبت الوسوم حول المسجد الأقصى، كما عرقلت وصول البث المباشر عن القضية للمستخدمين.

«يوتيوب» كغيره من الشبكات الاجتماعية صدم مستخدميه العرب في تركيا بعد ترجمة أوتوماتيكية لفيديو باللغة التركية، والذي ترجم كلمة «فلسطيني» إلى «إرهابي» مع العلم أن الكلمتين في اللغة التركية مختلفتان تمامًا؛ ما يستبعد إمكانية ارتكابه خطأً تقنيًّا، في المقابل عرف «جوجل» «الكوفية الفلسطينية» وهي لباس تقليدي فلكلوري معروف عالميًّا؛ برمز «للإرهاب»، وبدأت القصة عندما لاحظ أحد المستخدمين أنه عند سؤال «جوجل» عن لباس الإرهاب، يشير محرك البحث إلى «الكوفية الفلسطينية»، ما أثار حفيظة الفلسطينيين مطالبين «جوجل» بتوضيح لذلك.

الفلسطينيون والداعمون لقضيتهم خاضوا معركةً أخرى لا تقل أهمية عن مقاومتهم ضد قوات الاحتلال وهي «الحرب الإلكترونيّة» التي حاولوا من خلالها فضح ممارسات إسرائيل العنصرية بحقهم لكن الاضطهاد لم يقتصر فقط على الميدان وأرض الواقع بل انتقل إلى العالم الافتراضي وبات المستخدمون في مواجهة عدو افتراضي آخر داعم إلى إسرائيل.

«اضطهاد إلكتروني» ممنهج

صفية نوبل، وهي أستاذة في «جامعة كاليفورنيا» بأمريكا مهتمة بدراسات العرق والجنس والتكنولوجيا تحدثت  في كتابها «اضطهاد الخوارزميات» عن الممارسات القمعية لمواقع التواصل الاجتماعي ضدّ مستخدمين من مجتمعاتٍ معينة، تكون في الغالب قد عانت الاضطهاد السياسي والاقتصادي؛ مشيرةً إلى أن هذه الممارسات أو ماتسميه الاضطهاد الإلكتروني، ليس عرضيًّا؛ بل هو قمع ممنهج ومدروس وهو ما يمكن إسقاطه على الحالة الفلسطينية.

 إذ تقول الدكتورة صفية إن إسرائيل وضعت منذ إطلاق مواقع التواصل الاجتماعي مراقبة الفلسطينيين نصب أعينها، ووجدت فيها وسيلةً جديدةً لممارسة سلطتها عليهم؛ إذ تسعى لفرض سيطرتها في العالم الافتراضي كي تعرقل إيصال صوتهم إلى العالم.

بالإضافة إلى ذلك تقول الدكتورة صفية إن إسرائيل لم تكتفِ فقط بالمراقبة والتضييق على الفلسطينيين بل قامت بتأسيس وحدة إلكترونية خاصة عُرفت بالوحدة «8200» وهي مسؤولة عن التجسُّس الإلكترونيّ وجمع معلومات الفلسطينيين على الشبكة، وتلجيم وقمع المحتوى الفلسطيني على الإنترنت بشتى الطرق؛ منها اعتقال ناشطين وتهديدهم.

كما شارك «فيسبوك» وغيره من المنصات الرقمية المختلفة بالتعاون مع إسرائيل في قمع الفلسطينيين؛ من خلال سياساتهم التي تتهم كل داعم للقضية «الإرهاب ومعاداة السامية» فيما تتجاهل ممارسات إسرائيل بحق الفلسطينيين، وتحاول منع وصولها، كما ترفض أي تشبيه لها بالإرهاب.

الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي أثناء تغطيتهم للأحداث والحرب على غزة تأكدوا من عرقلة مواقع التواصل الاجتماعي لمحتواهم؛ إذ لاحظوا انخفاضًا غير طبيعي لعدد المشاهدات والتفاعل مع منشوراتهم الداعمة للقضية؛ إذ تم تقييد وصول تلك المنشورات في حين يكون التفاعل طبيعي مع المنشورات التي لا علاقة لها بفلسطين، وهذا ما تمت ملاحظته من خلال تجربة «بسي؛ر» قام بها عدد من الناشطين على موقع «إنستجرام» بالإضافة  إلى ذلك تم إغلاق حسابات آلاف المتفاعلين لتداولهم محتوى «حسَّاس» حسب خوارزميات التطبيقات، وتعتبر هذه التطبيقات كل الصور والفيديوهات التي توثق اعتداءات قوات الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين، رغم أنها لا تحجب محتوى مماثل عندما لا يتعلق الأمر بفلسطين، كما تمنع خوارزمياتها تداول بعض الكلمات مثل الأقصى، القدس، المقاومة، وأي محتوى مسيء آخر يرافق كلمة إسرائيل.

حملة ضد الاضطهاد الإلكتروني

ناشطون على مواقع الشبكات الاجتماعية لم يستسلموا لهذه المضايقات بل أطلقوا حملات عديدة لإيصال صوت الفلسطينيين إلى العالم، وقد نجحوا في ذلك؛ كلٌّ على طريقته، منهم من اختار الكتابة باللغة العربية دون تشكيل لتضليل خوارزميات الشبكات الإجتماعية وقد أظهرت بالفعل فرقًا؛ إذ إنه لم يتم التركيز عليها كغيرها من المنشورات العربية الداعمة لفلسطين في حين أطلق صحفيون وناشطون من الشرق الأوسط حملة إلكترونية أسموها بـ«Unmute Palestine» والتي تعرف نفسها أنها حملة إلكترونية ضد حظر «فيسبوك» و«إنستجرام» المحتوى الداعم لفلسطين، وعمل المشرفون عليها على مشاركة منشورات باللغتين العربية والإنجليزية، توثق السياسة القمعية والاضطهاد الإلكتروني الذي تمارسه هذه الشبكات ضد داعمين لفلسطين فيما تقول الحملة إنها تمثل مئات من المستخدمين الذين يعانون من التمييز على منصات الشبكات الاجتماعية؛ إذ يمنع عنهم التعبير عن آرائهم ومواقفهم الداعمة لفلسطين.

فيما دشَّن بعضهم حملة تقييمات سلبية بنجمة واحدة فقط مع ترك تعليق مندد بعنصريته تجاه الفلسطينين، بعد أن اشتكوا من تقييد محتواهم وحسابات مؤيدة للقضية.

فيما تراجع تقييم «فيسبوك» إلى 2.4 من 5 على متجر تطبيقات «جوجل بلاي» فيما تراجع إلى 2.3 على متجر التطبيقات في «أبل»، بعدما كان تقييمه 4 نجوم .

وعلقت الشبكة على الحملة قائلة أن الكثير من المستخدمين تركوا تعليقات تنتقد محاولات فيسبوك إسكات الصوت الفلسطيني، مع ترك وسم مثل «فلسطين حرة» أو «غزة تحت القصف» باللغة الإنجليزية مشيرة إلى أن رسائل داخلية كشفت عن تراجع ثقة المستخدمين في التطبيق بسبب إحساسهم بفرض الرقابة عليهم واضطهادهم.

ديكتاتورية العالم الافتراضي

شبكات التواصل الاجتماعي ومنذ إطلاقها، واجهت انتقادات عديدة بممارسات وصفت بغير الأخلاقية خاصةً بعدما حققت انتشارًا واسعًا، وأصبحت تقوم بدور الإعلام البديل ليسلط الضوء عليها.

«فيسبوك» مثلًا عملاق مواقع التواصل الاجتماعي لطالما واجه اتهامات متعلقة بنشر أخبار كاذبة أو منحازة لعرق معين أو  فئة اجتماعية معينة، أو حتى لحزب سياسي معين، وهو ما وضعه في أزمة تاريخية بعد فضيحة «كامبريدج أناليتيكا»، والتي أكدت تدخله في الانتخابات 2018، عندما تم الكشف عن أنَّ شركة استغلت «بيانات شخصية» لملايين المستخدمين على موقع «فيسبوك» من دون موافقتهم وذلك لاستخدمها لأغراض «الدعاية السياسية».

وفي حادثة أخرى مماثلة سمح «فيسبوك» ببث مباشر لمجزرة نيوزيلندا؛ حيث قام متطرف أسترالي بقتل  51 مسلمًا أثناء صلاتهم في مسجد كرايست شيرش، على الهواء مباشرة، دون أن تمنع انتشار الفيديو الذي يشجع على الإسلاموفوبيا إلا بعد فترة طويلة وبعد انتقادات واسعة.

لتضيف «فيسبوك» فضيحة أخلاقية جديدة إلى رصيدها في تعاملها مع الأحداث الفلسطينية الأخيرة؛ إذ رضخت شركة التكنولوجيا العملاقة للضغوط الإسرائيلية التي طالبت بتقييد المحتوى تحت ذريعة معاداة السامية، التي تستغلها تل أبيب لمحاربة المحتوى الذي يكشف ممارساتها ضد الفلسطينيين، فيما أصبح «فيسبوك» شبيه بـ«دولة افتراضية ديكتاتورية» داعمة لتل أبيب، وتفرض شروط استخدامها على المنتسبين لها لما يخدم مصالحها ومصالح حلفائها.

الانتقادات التي وجهت لشبكات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها «فيسبوك» أجبرته على التعليق بعد صمت دام طويلًا؛ إذ أصدرت الشركة أول رد فعل للاتهامات التي وجهت له؛ موضحةً أنها قررت إنشاء مركز عمليات خاص بمراقبة المحتوى، على المنصات التابعة لها: «فيسبوك» و«إنستجرام» و«واتساب» بشأن التصعيد في غزة والانتهاكات الإسرائيلية.

إذ وعدت نائبة رئيس «فيسبوك» لشئون سياسة المحتوى، مونيكا بيكرت، إن مركز العمليات الخاصة سيعمل على مدار 24 ساعة، وسيتضمن متحدثين باللغتين العربية والعبرية لمساعدة الشركة في تحديد أي انتهاك لسياساتها، وكذلك استعادة المحتوى الذي تمت إزالته عن طريق الخطأ.

 رغم تبريرات «فيسبوك» إلا أن موضوع الديكتاتورية الرقمية وأخلاقيات الشبكات الاجتماعية، ما زال يشكل أزمة لدى الباحثين والناشطين رغم أن هذه الشبكات كانت متنفسًا للحرية، لكن يبدو أنها لن تمنح هذه الميزة لجميع مستخدميها؛ فالأحداث الفلسطينية برهنت هذه الفرضية ووجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجه عدوين بالتوازي؛ أحدهما في الواقع والثاني على هواتفهم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد