في إحدى محطات مترو القاهرة، ألقي القبض على سيدتين بتهمة «الحديث عن غلاء الأسعار». توقفت عند هذا الخبر طويلًا، غير قادر على قمع دهشتي من تلك التهمة. وخلصت إلى أن الهدف من هذا الخبر، ليس مجرد توليد الخوف داخل المصريين، ولكن لتحويلهم إلى مصانع منتجةً للخوف، وليكونوا قادرين على نقل هذا الخوف إلى كل من حولهم. وتذكرت كيف حلّل المبدع المسرحي «سعد الله ونوس»، جوهر العلاقة بين السلطة والشعب.
كان هناك ملك ظالم، له فيل ضخم تركه يتجول في المدينة، فراح يخرّب ويدمّر البيوت والمزارع، ويدوس على الناس وأطفالهم فيقتلهم، دون أن يجرؤ أحد على وقف أذاه أو الاعتراض، وظل الناس صامتين وصابرين على مصائبهم. حتى ظهر «زكريا»، شاب مثقف، بدأ يحرّض الناس على الرفض، ويشجعهم على رفع شكوى إلى الملك، كي يمنع فيله عنهم. تحفز الناس وتحمسوا، وبدأوا يتدرّبون على ما يجب فعله. فاتقفوا على الذهاب إلى الملك للاحتجاج والمطالبة بمنع الفيل من تجواله القاتل، وكانت الخطة أن يبدأ «زكريا» بالقول: الفيل، يا ملك الزمان. وبعد ذلك يذكر كل منهم للملك، ما أصابه من أذى بسبب هذا الفيل. وبعد أن عرف كل منهم دوره وما يجب عليه أن يقول، ذهبوا إلى الملك. وما إن دخلوا القصر حتى أصيبوا بالرعب من عظمته وفخامته، وهم الذين يعيشون في فقرٍ مدقع، وراعهم مشهد الملك المهيب وما حوله من أمنٍ وحرّاس. فتغير موقفهم وسيطر عليهم الخوف.
توجه «زكريا» إلى الملك قائلًا: الفيل يا ملك الزمان، فقال الملك: ما شأن الفيل؟ فنظر زكريا إلى مرافقيه، في إشارة إلى أن يقول كل منهم ما اتفقوا عليه، لكنهم ظلوا صامتين خوفًا من الملك. فراح «زكريا» يكرر عبارته بصوتٍ أعلى وبتحريضٍ أشد لعلهم ينطقون، لكن دون جدوى. حتى غضب الملك، وصرخ فيهم: ما شأن الفيل؟ فلم يجد منهم جوابًا. فهدّدهم الملك، ونظر إلى «زكريا»، الذي اضّطر إنقاذًا للموقف ونكاية بهم، أن يغير المطالب. فقال: الفيل يا ملك الزمان، يعيش وحيدًا، مكتئبًا، ورعيتكم ترى أنه يحتاج إلى زوجةٍ، تخفّف وحدته، وتنهي كآبته، وتنجب لنا عشرات الأفيال، تمرح في شوارعنا، وتملأ المملكة بهجة وسرورًا. فرح الملك ووافق على الفكرة فورًا، ومال على زوجته قائلًا: كنت أقول دائمًا إنني فعلًا محظوظ برعيتي. وأمر بإحضار زوجة للفيل، وإقامة عرس كبير في المملكة بمناسبة زواج الفيل. وكافأ «زكريا» فعينه مرافقًا دائمًا للفيل وزوجته. وبعد أن كانت المدينة تعاني من فيلٍ واحد، أصبحت معرضة لأذى الفيل وزوجته وأولاده.
الخوف
إنها حالة فصام، فلا السلطة تعبأ بهموم الشعب، ولا الشعب الخانع قادر على مواجهتها. لكن قد تأتي لحظات تاريخية في حياة الشعوب لا يجب أن تمر مرور الكرام، بل إن استثمارها هو إنقاذ للوطن ولمستقبله. وهذا ما تمر به مصر في اللحظة الراهنة. فمنذ انقلاب 2013، امتلأت ربوع مصر بأفيال تهلك الحرث والنسل، وتستمد دوامها واستمراريتها في الحُكم، من خلال توحُّد النفاق والخوف معًا، لتقيم دولةً منزوعةَ العدل، مسلوبةَ الحريات، تُساند سلطانًا جائرًا ومتكبرًا وفاسدًا. فأهل النفاق، يسحرون أعين حُكامهم، يرون باطله حقًا، ويُزيِنون جرائمه، فتظهر للرعية وكأنها معجزات.
أما أهل الخوف، فهُم معزولون عن النضال لأجل مصلحة الوطن، تجدهم دائمًا قلقين على أرواحهم، وعلى لُقيمات يَلهثون وراءها لإطعام أبنائهم، وقد أسكتهم خوفهم وشغلهم عن البحث عن حقوقهم.
لقد اجتمع الخوف مع الرياء في نظام السيسي، فلا تسأل عن عدالة أو كرامة، ولا تتعجب من دماء أُريقت، أو أخلاق أُهملت، أو أمراض تفشَت، أو فقر أعقبه جوع وتشرُد، أو غلاء يصرخ منه الجميع، الخوف والنفاق صنعا فرعون هذا الزمان. مصر اليوم ليس فيها إلا أفيال تدهس كل شيء، الحلم ممنوع، والكلام جريمة، وعدم نفاق ومديح السيسي أصبح مُعاقبًا عليه. السيسي يريد أن يكون ملك هذا الزمان، يريد ألّا يُسمع صوت غير صوته، ولا يريد أن يرى أحدًا يحلم بالحرية. وفي اللحظة التي أصبح فيها أفيال العسكر مكلفين بحراسة السيسي، ومسلحين بأسلحة تقتل الآخرين دون حاجة لمصارعتهم. في هذه اللحظة لم يعد بمقدور المصريين الدفاع عن أنفسهم بقوتهم الجسدية أمام دبابات الأفيال وأسلحتهم. فلجأوا للخنوع والصمت.
الصمت
للصمت عواقبٌ أخطر من الكلام. كما يحكي «نجيب محفوظ» في إحدى رواياته: «سألتُ الشيخ التائه: متى يُصلح حال البلد؟ فقال عندما يؤمن أهلها أن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة».
منذ البداية، كان الخوف آلية قهر استخدمها نظام السيسي، لتفرقة الناس بعضهم عن بعض والاحتفاظ بالسلطة. وكان العنف هو الفرضية المميزة لنظام السيسي، لدرجة أن قادة جيشه اعترفوا بأن ثورة يناير هددت هيمنتهم السياسية والاقتصادية. وأنهم على استعداد لدخول حرب من أجل «عَرَق الجيش»، فكان من الطبيعي أن تكون الخطوة التالية لشعبٍ خائف، هي الصمت.
وهذا ما يتمناه السيسي، والذي لم يُضِع فرصة جديدة لإخبار المصريين عن أهمية السكوت. فيصرخ في أحد مؤتمراته: «إنني سعيد بالنقد، ولكن عندما يأتي من أشخاص مستنيرين واعين ومطّلعين». وبطبيعة الحال، فإنه هو الذي يحدد من هم الأشخاص المستنيرون الواعون. أما الفئة التي لا تحظى بتصنيف النظام لها على أنها مستنيرة، فلديها تنوع من الخيارات: الهجرة، الاختفاء القسري، الاعتقال، التعذيب، الوفاة. فعندما يوضح الرئيس أنه يزدري معارضيه، يتعمق الخوف، خاصة بعد أن منح أفياله الضوء الأخضر لاستخدام بطشهم متى أرادوا.
ولكن هناك حقيقة قبيحة وهي أن: الخوف والصمت، سيسببان شللًا جماعيًّا لمجتمعنا. شللًًا لا يقل سميّةً عن الظلم الذي نعاني منه، إن قبول ملايين المصريين وصمتهم، يجعلهم يدًا فعّالة وغير مرئية ضد أي فرصة لإزاحة نظام السيسي.
المواجهة
حينما لا تُمتلك الشجاعة لمواجهة الاستبداد أو الظلم، فلا ينبغي الشكوى أو التذمر، لا بد من تحمُل المزيد، أفيالٌ أكثر، تتناسل لتطيل أمد القمع الذي يأتي لمن يستحقونه. هكذا توجد الفيلة وتتكاثر وتتناسل، وهي حكاية دموية، تتكرر في كل زمان ومكان، طالما ظل الخنوع والتردد مُتسيدّين.
وبرغم هذا، أرى بعضًا من الشعب المصري قد كسروا حاجز الصمت. إلا أن كثيرين أيضًا، ما زالوا بعيدين عن الثورة بحجة الخوف حينًا، والتخاذل والرضوخ أحيانًا أخرى، بل إن بعضهم يرى في الثورة عملًا فوضويًّا، يرجع بنا إلى الوراء، وكأن مصر تحت حكم العسكر، قد تربعت على قمة الرخاء والتقدم الحضاري في العالم.
يا أيها الصامتون، إن خوفكم سوف يُنتج أجيالًا جديدة من الفيلة، أكثر جورًا وظلمًا من سابقيها، وأنتم ستكونون أوّل ضحاياها، لأنكم كنتم الجسر الذي يعبر السيسي فوقه حتى يصل إلى قمة طغيانه. ما بال الأمر قد وصل إلى أنكم ترون الرحمة في جلادكم إن ضربكم وعذبكم دون أن يميتكم. إنها فرصتكم لتخرجوا عن صمتكم وتنضموا إلى ركب الثورة. فرصة قلما يجود الزمان بمثلها، فسارعوا وكونوا على مستوى تضحيات إخوانكم في الوطن وبطولاتهم.
يا أيها المصري، إن خروجك في المظاهرات هو بحد ذاته عمل عظيم، يساهم بنقلك من خانة الصامتين والخائفين إلى موكب المناضلين المتحدين بإرادتهم كل أشكال الخوف. الرجال الحقيقيون اليوم هم من يواجهون رصاص القتلة بصدورهم العارية، هؤلاء يعيدون كتابة التاريخ، هؤلاء يفتحون بدمائهم فسحة أمل أمام نسائم الحرية. فإن ارتضيت ببطش فيلٍ واحدٍ اليوم، فغدًا ستتكاثر الفيَلة ولن يكون لك مهربٌ من بطشها. تجرأ على الحلم، على الثورة، على الأمل. اصدح بصوت الحرية في ربوع مصر. وسيأتي يومٌ نعانق فيه أحلامنا، يوم تفرّ فيه الأفيال أمام زحف الجماهير.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست