لم يعد الرجل ذلك الحضن الآمن والقلب الحاني الذى يحتوي المرأة مع كل أسف، وأصبح رسولًا للموت بعد أن كان رسولًا للحياة، بعد أن أصبح غير مسئول ومفضلًا اللذة العابرة على العاطفة الثابتة، تلك اللذة العابرة التي تترجم نفسها في «صيغ البحث عن الفائدة والخيارات الرشيدة العقلانية والتي قد دمرت ما تتسم به العلاقات الوجدانية من ديمومة وعفوية -تلقائية- عاطفية، حيث إن التأقيت والمدى القصير اللذين تقوم عليهما حسابات المجتمع الاستهلاكي الحديث يقومان بتوليد الحاجات بشكل مستمر، وتحويل كل شيء قديم إلى شيء مستهجن يستحق أن يوضع في سلة النفايات، بما في ذلك المشاعر والعلاقات». «د. هبة رؤوف عزت»

وبما أن الإنسان بطبيعته يهرب من الوحدة ويسعى إلى التغلب على الانفصال؛ فمن هنا تبدأ رحلة بحث المرأة عن بديل، ولأن المشكلة أصبحت في العلاقة نفسها، وليس في شخصيات تقام معها العلاقة؛ فلم يعد البديل علاقة سوية أخرى، إنما أصبح البديل علاقة شاذة. ونقصد بالعلاقة الشاذة: هي كل علاقة تخالف الفطرة السوية والطبيعة الإنسانية.

أول تلك العلاقات الشاذة هو الشذوذ الصوفي! وهو استبدال المعشوق الأرضي بمعشوق آخر سماوي! ويبدو أن تلك النزعة أصبحت منتشرة بكثرة، وانتشرت صفحات كثيرة على مواقع الاتصال الاجتماعي تدور حول العشق الصوفي، والحب الصوفي… إلخ، وأغلب متابعيها من النساء.

إن هناك فارقًا بين الصوفية والتصوف، لعل من أبرز تلك الفوارق كما نرى أن التصوف هو عبادة يتقرب بها الإنسان إلى ربه في الخفاء، بينما الصوفية هي حالة غنوصية حلولية تتم في العلن، ولا ينبغي أن يكون هناك تعارض بين الزهد والتقوى، وبين ممارسة الحياة اليومية بشكل طبيعي، لكن عندما يتحول الأمر إلى استبدال الحب الروحي بالحب الحسي؛ فإننا هنا أمام نوع من التصوف مخالف للفطرة؛ «لأن التصوف باعتباره خروجًا عن حدود الأجساد والمحسوسات والتعلق بعالم الروح، فإن ذلك يتعارض مع الحياة اليومية للمرأة التي إن وافقت على شروط التصوف، فهي بالتالي تعقد تصالحًا مع رغباتها أو تثور عليها من أجل التفرغ للعبادة!» «د. شحاتة صيام»، والتصالح مع رغبات الجسد هو تصوف لا غبار عليه، أما التمرد عليها فهو صوفية وهي رهبانية ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان!

من هنا تصبح العلاقة مع ذلك المعشوق السماوي تجسيدًا حرفيًّا للعلاقة مع رجل وبديلًا عنها في الوقت نفسه! حتى إن العبارات المستخدمة في كثير من الأحيان تجعل الأمر يختلط عليك، فلا تفهم إن كان الكلام يُقصد به رجلًا في حياة تلك المرأة أم أنها تقصد المعشوق السماوي!

أما ثاني تلك العلاقات الشاذة فهي التوجه بالحب صوب امرأة أخرى! فنجد أن العلاقة بين النساء بدأت تتخذ منحى مختلف عن الصداقة؛ فكثر بينهما حديث الغزل، وعبارات الإطراء، بل إن العلاقات بدت تشهد المشاعر نفسها بين الرجل والمرأة من خيانة وغيرة وهيام وإعراض… إلخ!

وأصبح من الشائع جدًا أن تقرأ لإحداهما غزلًا صريحًا في الأخرى، يتخطى حدود الصداقة، وتستشعر أنك أمام اثنين متزوجين! بل لعل الغريب في الأمر أنه ما إن ترتبط إحداهن برجل حتى يثير ذلك غيرة الأخرى، ولا يهدأ لها بال بشتى الطرق حتى تفرق بينهما! ولا يتم ذلك الأمر بمعزل عن الأخرى؛ فهي تحتمي فيها وتعشقها ولا تريد خيانتها! ربما البُعد الجنسي ليس حاضرًا بقوة، فأحيانًا -وهو الغالب- يختفي تمامًا، وأحيانًا يصبح مجرد حديث جنسي بين الطرفين، وقد يرقى في أحيان أخرى إلى مداعبات وملامسات وكشف عورات، والحالة النادرة في مجتمعاتنا قد يتحول بالفعل إلى علاقة جنسية شاذة بينهما!

إن من أهم أسباب نشأة العلاقات الشاذة بين النساء هو خيبة أملهن في الرجال، وفشلهن في إقامة علاقة سوية معهم، ولعل أكثرهن عرضة لذلك تلك المتمردات المتحررات، اللاتي يستنكفن سيطرة الذكور ويرغبن في منافستهم؛ فيسترجلن في تصرفاتهن مثلهم! على حد تعبير سيمون دي بوفوار.

أما ثالث تلك العلاقات الشاذة فهي ما أسميه علاقات الملكية العامة! إن حاجة المرأة لأن تبدو محل إعجاب من الرجال قد تكون في بعض الأحيان أعمق من حاجتها إلى الحب! لذلك نجد تلك الفتيات اللاتي يشبهن عرائس المولد في مظهرهن، ولكنهن في الحقيقة بلا قلوب! إنهن مجرد صورة زائفة برانية تبهرك حقًا وتخطف أنظارك، ولكنهن بلا حياة جوانية حقيقية؛ لذلك فإن علاقة الحب السوية تفضحهن وتعريهن أمام أنفسهن؛ فيهربن منها؛ لذا يحولن أنفسهن إلى ملكية عامة عوضًا عن أن يكن ملكية خاصة، وبالتالي يقومن بإغواء أكبر عدد من الرجال تحت عنوان الصداقة! وإن كانت المرأة أقدر على الصداقة النزيهة؛ فإنها تعلم يقينًا أن الرجال غير قادرين على التفرقة بين الحب والصداقة، فهي علاقة استنزاف واستغلال ظاهرها البراءة وباطنها بخلاف ذلك، وقد قالت لي إحداهن مرة إنها تشبع رغباتها الأنثوية عندما تستمع لعبارات الإطراء في حديثها مع أصدقائها الرجال! وهي نفسها قد قامت بحذف جميع أصدقائها الرجال بمجرد أن خُطبت! وامرأة أخرى قالت إنها لم تعد تستمتع بعبارات المدح بعدما ارتبطت برجل يُحبها، ولكنها سرعان ما تخلت عن علاقتها بذلك الرجل حتى يتسنى لها الاستمتاع مجددًا بمديح الرجال! فيبدو أن «امرأة واحدة لا تكفي» أصبح يقابلها «رجل واحد لا يكفي»!

إن أسباب تفشي تلك الظواهر، وفي اعتقادنا أنها مرجحة للزيادة، خصوصًا مع ارتفاع معدلات الطلاق، والعزوف عن الزواج، واضطراب العلاقة بين الرجال والنساء إلى أقصى درجاتها، عائد إلى ثلاثة أسباب رئيسية:

أولها هو فلسفة عصر الحداثة السائلة، وما أصابت العلاقات فيه من هشاشة «إذ إن ما بعد الحداثة سوف تفكك الأسس التي عليها قامت مؤسسة العائلة، كما ستخلق فوضى أسرية وإحساسًا بالتشظية والاضطرابات واللااستمرارية، ولن يعد البيت ملاذًا للتجانس والهدوء والتفاهم، بل قد يصبح موقعًا للمواجهة بين أناس لديهم أيديولوجيات مختلفة وانتماءات اجتماعية خاصة مشكلة بطريقة متنوعة، كما هو حال النباتات الغريبة في غابة استوائية مطرية» «د. باسم علي خريسان».

ثاني تلك الأسباب هو الخوف من الحب، والتصورات المثالية والمفاهيم المغلوطة التي شاعت عنه بسبب الإعلام الرومانسي، وهو ما ناقشناه من قبل «انظر مقالنا: فوبيا الحب».

أما أخيرًا فالأمر مرتبط بالتربية الجنسية الخاطئة، فغالبًا ما يتخلل تلك التربية الكثير من المفاهيم المغلوطة والتهويل المبالغ فيه، وترهيب النساء من ذلك الأمر، فضلًا عن أننا مجتمع محافظ؛ فنعتبر التطرق لتلك المسألة من المحرمات! ومن هنا تنشأ عقد نفسية تؤثر حتمًا على العلاقة بين الرجل والمرأة، وتؤثر في تصور المرأة للرجل بصفته وحشًا كاسرًا غازيًا لا بد من مقاومته! فهناك ثقافة جنسية تحقر من الجسد وشهواته بصفته مصدرًا للفتنة والدنس، ومن ثم يكون مجرد التفكير فيه يؤدي لاحتقارهن لذواتهن! وأن الجنس ليس إلا حاجة بيولوجية فحسب، مثلها مثل الجوع والعطش ينبغي أداؤها والتخلص منها سريعًا، في حين أن الجنس هو فن وإحساس، وهو تجربة روحية يتصل فيها الإنسان بشريك حياته ليتكاملا معًا، إنه إفضاء للمشاعر بتعبير القرآن الكريم.

إن المرأة في بحثها عن تلك العلاقات الشاذة، ليس إلا لأنها وجدت شذوذًا لا يضاهيه شذوذ من الرجل عندما توقف عن أن يكون رجلًا، واكتفى بالذكورة معيارًا وحيدًا لرجولته! إن النساء شقائق الرجال، وعلى الرجل أن يعود رسولًا للحياة، وأن يكف على أن يكون رسولًا للموت؛ لأن «المشرحة مش ناقصة قتلى».

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد