وقفة مع انتفاضة 1432هـ (2011م) في مصر
جماعة الإخوان المسلمين و«حركة شباب 6 أبريل» يُعدان من أهم المتصدرين للانتفاضة الشعبية في مصر؛ والتي اندلعت في صفر 1432هـ (يناير (كانون الثاني) 2011م). لكن كليهما – كغالبية الجماعات والأحزاب والتيارات – مختَرَقان غربيًّا، ويُقِرَّان بهيمنة الغرب على مصر، وما يرجونه من الغرب، هو فقط إعادة توزيع وظائف السلطة، تحت شروطه، وبالوجوه التي يرضى عنها.
«حركة شباب 6 أبريل» وعلاقاتها بالإدارة الأمريكية
فمثلًا قيادات «حركة شباب 6 أبريل» التي تأسست سنة 1429هـ (2008م)، كانت على اتصال بالإدارة الأمريكية، كما أكدته وثائق ويكيليكس. فأحد قياداتها شارك في «قمة تحالف حركات الشباب» التي انعقدت في ذي الحجة 1429م (ديسمبر/ كانون الأول 2008م) في جامعة كولومبيا في نيويورك، والتقى بأعضاء من الإدارة الأمريكية. «قمة تحالف حركات الشباب» عبارة عن ورشة تدريب تحت إشراف الإدارة الأمريكية، يجري فيها استقطاب شباب من مختلف بلدان العالم لتدريبهم على استعمال وسائل التواصل الحديثة (فيسبوك، إلخ) لإحداث تغيير ديمقراطي، وكيفية الإفلات من المراقبة التي تمارسها المخابرات المصرية على وسائل التواصل، ومن ثم ربطهم بالإدارة الأمريكية وسياساتها. وقد كانت من بين أجندة «حركة شباب 6 أبريل» دعم محمد البرادعي، أحد رجال أمريكا الاحتياطيين، لدخول انتخابات الرئاسة في مصر المقررة لسنة 1433هـ (2012م) – قبل اندلاع انتفاضة 1432هـ – ومن ثم تبنت الحركة برنامج البرادعي واستقبلته حين عودته إلى مصر في ربيع الأول 1431هـ (فبراير/ شباط 2010م).
https://www.youtube.com/watch?v=H1uVUtqd3pg
وبعد انسحاب البرادعي من الانتخابات الرئاسية، بعد انتفاضة 1432هـ (2011م)، دعم جزء كبير من «حركة شباب 6 أبريل»، وعلى رأسهم مُؤسس الحركة أحمد ماهر، محمد مرسي في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية ضد أحمد شفيق.
كحال كل الشخصيات والأحزاب والتيارات غير المبدئية أو العميلة، فإنها تغير مواقفها بسرعة من النقيض للنقيض، لتتأقلم مع إرادة القوى المهيمنة. فـ«حركة شباب 6 أبريل» التي أيدت محمد مرسي قبل حين، شاركت بقوة أيضًا في عزله. ففي بيان تلاه مُؤسسها أحمد ماهر، اعتبرت الحركة انقلاب عبد الفتاح السيسي في 25 شعبان 1434هـ (3 يوليو/تموز 2013م) «استجابة لمطالب الشعب».
من عقيدة جماعة «الإخوان المسلمين» الركون للغرب وأنظمته الوظيفية في البلدان الإسلامية وتملقها لهم منذ عهد مؤسسها حسن البنا
من أراد فهم موقف جماعة الإخوان المسلمين السلبي والكارثي إبان انتفاضة صفر 1432هـ (يناير 2011م)، عليه الاطلاع على الأفكار التي تأسست عليها. لذلك سأعرض فيما يلي لمحة مختصرة عن منهجها في السياسة.
جماعة الإخوان المسلمين المتأثرة بالخلفية الصوفية لمؤسسها حسن البنا – رحمه الله – وبمدرسة جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، اللذادين لعبا دورًا تاريخيًّا في ترسيخ «إسلام موالٍ للغرب»، من عقيدتها (أي جماعة الإخوان)، منذ عهد البنا، أن التعامل مع من بيدهم القوة والسلطة والتملق إليهم، أيًّا كانت عقيدتهم (أي أصحاب القوة) ولِأيٍّ كان ولاؤهم، مباح لتحقيق مصالحَ عن طريقهم ومشاركتهم الحكم حيثما سمحوا (أي أصحاب القوة) للإخوان بذلك. فعلى لسان مأمون الهضيبي، المرشد العام السابق لجماعة الإخوان: «نحن نتحالف مع من يستطيع أن يقربنا من دوائر صنع القرار» (نقلًا عن شهادة ثروت الخِرباوي، العضو السابق بالجماعة، من كتابه «سر المعبد، الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين»).
ومن ثم كانت الجماعة، منذ عهد مُؤسسها البنا، على اتصال وتعاون مع الملك فاروق ومختلف الحكومات المتعاقبة، ومع الإنجليز إبان احتلالهم لمصر، ثم بأمريكا.
دعم بريطانيا للإخوان المسلمين
فمثلًا يذكر ريتشارد ميتشل في كتابه «الإخوان المسلمون»، بأن شركة قناة السويس – البريطانية- الفرنسية آنذاك – دعمت حسن البنا بمبلغ 500 جنيه مصري (يعادل اليوم حوالي 37 ألف دولار أمريكي) لبناء أول مقر للإخوان (بالإسماعيلية) يشمل مسجدًا ومدرسة ومقرًّا للجماعة. يذكر حسن البنا في «مذاكرات الدعوة والداعية»، أنه التقى بمدير شركة قناة السويس في مكتبه بالشركة، وعرض عليه هذا الأخير أن تساهم الشركة في بناء المسجد بخمسمائة جنيه مصري، وعلى حسن البنا تسليم المدير رسمًا ومذكرة للمشروع، الشيء الذي فعله البنا. وذكر البنا أيضًا أنه احتج لدى مدير قناة السويس، كيف تتبرع الشركة بـ 500 ألف جنيه لبناء كنيسة، لكن لا تتبرع إلا بـ500 جنيه لبناء مسجد الإخوان! وحسب تقدير حسن البنا في مذكراته، فقد تم تدشين افتتاح المسجد، يوم 17 رمضان 1348هـ (16 فبراير/ شباط 1930م). (للإشارة، مذكرات حسن البنا تحتاج لتحقيق وتنقيح، لأن بها بعض التفاصيل المغلوطة، لعل البنا نسي تفاصيل بعض الأمور بعدما مر عليها الزمن مع ضياع مذكراته الأصلية).
وقد ثار المسلمون أيامها، كيف يقبل حسن البنا ببناء مسجد بأموال الكفار، وأفتى بعض المشايخ بأن الصلاة لا تصح فيه. رد البنا على اعتراضات المشايخ، فسمى فتواهم بـ«الفقه الأعوج»، إذ رأى أن الأموال التي حصل عليها من شركة قناة السويس هي في الأصل أموال المسلمين، إذ الشركة الغربية هي لدولة محتلة لمصر ولمياهها، وأراضيها، وقناتها! يبدو أن حسن البنا تناسى أن الشركة الغربية (فرنسية آنذاك) هي التي صممت قناة السويس، وهي التي مولت المشروع وباشرت حفر الممر الذي يربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر، وكل ذلك بطلب من حكام مصر، وبرضا الباب العالي في إسطنبول، حيث حصلت الشركة الفرنسية على امتياز حفر وتشغيل القناة لمدة 99 عامًا، وتم الانتهاء من بناء القناة سنة 1286هـ (1869م) (اشترت بريطانيا لاحقًا نسبة كبيرة من أسهم الشركة لتقاسم فرنسا ملكيتها).
فإذا كان هذا تسويغ حسن البنا للاستعانة بأموال كفارٍ لبناء مسجد، فلك أن تتصور المنهج الذي أقام البنا الجماعة على أساسه، والمسوغات التي ستكون مستعدة (أي جماعة الإخوان المسلمين) لتبنيها من أجل تسويق أي أعمال ومواقف، مهما كانت مناقضة صراحة للإسلام. وتاريخ الجماعة ومواقفها إلى يومنا هذا أثبتت مدى الانحراف العقائدي والمنهجي والتخبط السياسي للجماعة – منذ عهد مُؤسسها – والتي انتهت بكوارث كثيرة في العالم الإسلامي، ليس أولها ولا آخرها انتفاضة 1432هـ (2011م) في مصر.
توالت اتصالات الجماعة بالمحتل البريطاني، إذ تذكر مثلًا الوثائق الرسمية البريطانية التي رُفعت عنها السرية (راجع مثلًا كتاب «التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين»، لمارك كورتيس)، اتصالًا مباشرًا بين بريطانيا وجماعة الإخوان عام 1360هـ (1941م)، مباشرة بعد الإفراج عن حسن البنا من السجن، عرضت فيها بريطانيا مساندتها للإخوان بشروط لم تُذكر تفاصيلها. وعلى إثر ذلك عُقد اجتماع في السفارة البريطانية مع أمين عثمان باشا رئيس وزراء مصر بتاريخ 3 جمادى الأولى 1361هـ (18 مايو/ أيار 1942م)، تم فيه الاتفاق على أن تتولى الحكومة المصرية سرًّا دعم الإخوان بمساهمة مالية من بريطانيا، كما اتفق على إدخال عملاء موثوق بهم في صفوف الإخوان ليراقبوا عن قرب أنشطة الجماعة، ويكتبوا تقارير للسفارة البريطانية. فتمويل بريطانيا لنشاط جماعة الإخوان قطعًا لم يقتصر على المساهمة في بناء أول مسجد ومقر لهم في الإسماعيلية.
بريطانيا، كعادتها (وكعادة الغرب عمومًا)، تلعب دائمًا على حبل التناقضات، فمثلًا هي التي أسست المَلَكية في مصر، وكانت تدعم الملك فؤاد الأول، ثم ابنه الملك فاروق الأول، لكن في الوقت نفسه كانت تساند أحزابًا مناهضة للقصر الملكي، كحزب الوفد الليبرالي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فرضت بريطانيا بالقوة حكومة «وفدية» خالصة على الملك فاروق سنة 1361هـ (1942م). وبريطانيا كانت تدعم أيضًا جماعة الإخوان المسلمين ضد التيارات القومية والليبرالية. وهكذا دواليك.
جماعة الإخوان المسلمين، منذ عهد حسن البنا، وهي تظن أنها يمكنها أن تستغل صراعات بين أطراف مختلفة لصالحها. لغبائها السياسي لم تدرك أن الذي يستغل الصراعات بين الأطراف، هو الطرف القوي الذي يمسك بخيوط اللعبة، بل في كثير من الأحيان هو من يؤجج صراعاتٍ بين أطرافٍ حين يحتاج لذلك. فحسن البنا وجماعته لم يكونوا سوى أداة تستعملها القوى المختلفة، والحال ما زال كذلك إلى اليوم.
تملق الإخوان المسلمين لأصحاب السلطة
هكذا ألقى حسن البنا بنفسه وبجماعته في خضم الصراعات على السلطة في مصر، مُحاولًا مسك العصا من المنتصف، بين بريطانيا، والملك، والحكومات المتعاقبة في مصر، فكان الإخوان يداهنون مرة هذا الطرف السياسي، ويتملقون لذاك، ويُعَادُون أحد الأطراف، ويتحالفون حينًا مع طرف آخر، إلخ. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أقتبس افتتاحية لرسالة بعثها حسن البنا إلى الملك فؤاد الأول، ليتضح مدى التملق والمداهنة التي امتازت به الجماعة، إذ يقول فيها: «إلى سدة صاحب الجلالة الملكية حامي حمى الدين ونصير الإسلام والمسلمين مليك مصر المُفَدَّى. يتقدم أعضاء مجلس الشورى العام للإخوان المسلمين المجتمعون بمدينة الإسماعيلية بتاريخ 22 صفر سنة 1352 (15 يونيو/حزيران 1933م) والممثلون لخمسة عشر فرعًا من فروع جمعية الإخوان المسلمين برفع أصدق آيات الولاء والإخلاص للعرش المفدى ولجلالة المليك، وسمو ولي عهده المحبوب، …» («مذكرات الدعوة والداعية» لحسن البنا)، هذه كلمات بحق ملك نصَّبه البريطانيون على رأس دولة علمانية سُلِخت من الإسلام.
ونشرت مجلة «الإخوان المسلمون» في العدد رقم 185، الصادر يوم السبت 27 ربيع الأول 1367هـ (7 فبراير 1948م)، صورة الملك فاروق الأول على غلاف المجلة ومكتوب أسفلها: «جلالة ملك الوادي بمناسبة عيد ميلاده السعيد (11 فبراير)»!
وأعلن الإخوان المسلمون تحت قيادة حسن البنا مرات عدة بيعتهم للملك فاروق الأول. فمثلًا لما انتهت الوصاية على فاروق حين بلغ ثمانية عشر عامًا، وأصبح ملكًا رسميًّا على البلاد، توافد في أحد أيام جمادى الأولى 1356هـ (يوليو 1937م)، حشد من الإخوان إلى ساحة قصر عابدين يهتفون: «الله أكبر ولله الحمد، الإخوان المسلمون يبايعون الملك المعظم، نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله» («الإخوان المسلمون» لريتشارد ميتشيل).
واقتداء بمُؤسسهم في سياسة التملق والمداهنة، أصبحت مغازلة الإخوان لأصحاب السلطان، والتملق لهم سمة طاغية في كل تعاملاتهم، فبعد الملك فاروق، تملقوا لجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك. هذا الأخير غالى الإخوان في التملق إليه، فبعدما أيدوا إعادة انتخابه للرئاسة سنة 1407هـ (1987م)، وقف المستشار مأمون الهضيبي (الذي أصبح لاحقًا مرشدًا عامًّا للإخوان سنة 1423هـ/ 2002م) لما كان رئيسًا للهيئة البرلمانية ليعلن بيعة الإخوان المسلمين لحسني مبارك.
يُتبع…
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست