لا شك أننا نتفق مع الكاتب في هدفه الرئيسي، وهو رفع حالة الظلم عن المظلوم والضرب على يد الظالم والأخذ بيد المظلوم والاقتصاص من الظالم للمظلوم لإقامة العدل وإعلائه كقيمة أخلاقية عليا لا يمكن التنازل عنها للإنسانية جمعاء.

ولكن عند الحديث عن أمر شرعي مثل الجهاد فيجب أن يُنظر للأمر وفق ضوابطه الشرعية المنضبطة به.

وقد كان الجهاد على بصيرة هو عنوان المقالة التي كتبها الشنقيطي عن الجهاد (الجهاد على بصيرة)، وسرعان ما انتشر هذا المقال وأصبح له صدى واسع، بل وتبناه البعض كرؤية حداثية متطورة تصحح المفاهيم وترسخ ثوابت جديدة، لذلك كان من الأمانة العلمية أن يتم دراسة المقال دراسة مفصلة لمعرفة هل كان حقًّا ما قاله عن بصيرة.

ونحن في هذا لن نناقش فكرة الظالم التي أصل لها الكاتب ودعا إليها (لأنه إذا أردنا التحدث عن الظالم من نموذج معرفي إسلامي فيجب أن ندرك أن الجهاد ارتبط بالظالم وقت الاستضعاف فقط)، بل سننظر في أدلته التي استخدمها للاستدلال والتأصيل لفكرته، وهي أن الجهاد في أصله هو جهاد الظالم فقط.

وسوف ننهج في تنقيح ما جاء بالمقال لتأصيل ما ذكره من مفاهيم.

وفي هذا وجدنا:

استخدم كاتب المقال كلمات مفتاحية للمقال وكانت كما ذكرها (الجهاد – الجهاد على بصيرة – الجهاد في الإسلام – أنواع الجهاد – الثورات العربية).

وعلى أساس هذه الكلمات دار مقال الكاتب واستفاض في حديثه عن الجهاد، أو كما أسماه الجهاد على بصيرة.
وقد استشهد على ما يقوله بأدلة من الكتاب والحديث وسوف يأتي ذكرها تباعًا في موضعها كما وضعها تحديدًا.

فإذا أردنا التحدث فيجب علينا أولًا أن نحدد تعريف ما ذكره من مصطلحات وفق ما اتفق عليه أهل العلم بالإجماع.

قلنا:

** قال الإمام الجويني رحمه الله في متن الورقات في أصول الفقه (وأما الإجماع فهو ما اتفق علماء العصر على حكم الحادثة، ونعني بالعلماء: الفقهاء، ونعني بالحادثة: الحادثة الشرعية). وإجماع هذه الأمة حجة دون غيرها، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، والشرع ورد بعصمة هذه الأمة، والإجماع حجة على العصر التالي في أي عصر كان. والإجماع صحيح بقولهم وفعلهم، وفعل البعض وقول البعض وسكوت الباقين.

انطلاقًا من السابق فإن أمر الجهاد نفسه قد حسم لغة واصطلاحًا وأجمع عليه العلماء (أقسامه – أحكامه وضوابطه– درجاته) في عصور التمكين وعصور الاستضعاف، بل والذهاب والعودة بين جهاد الطلب وجهاد الدفع، بين فرض العين وفرض الكفاية.

تعريف الجهاد:

لغة: مأخوذ من الجُهد أو الجَهد وهو بذل الوسع.

اصطلاحًا: إذا أُطلق في الغالب فإنه يصرف إلى جهاد الكفار وقتالهم، من المعاندين والمحاربين والمرتدين والبغاة ونحوهم، ويكون مقصوده إعلاء كلمة الله عز وجل وهذا هو المعنى الخاص للجهاد.

المعنى العام: فكما قال ابن تيمية: (هو بذل الوسع وهو القدرة في حصول محبوب الحق).

 تعريف البصيرة:

لغة: قوة الإدراك والفطنة، والعلم والخبرة، وفراسة صادقة.

مثل: فعل ذلك عن بصيرة، أي فعل عن عقيدة ورأي.

وجاءت بمعنى نظر نافذ إلى خفايا الأشياء.

فإذا قلنا بأن الجهاد حسم أمره وأصبح محكمًا ومبينًا، إذًا نفاذ البصيرة يكون في تنفيذ أحكام الجهاد التي أجمع عليها علماء المسلمين واختيار أنسبها وفق أعمال البصيرة في واقعنا المعاصر، أي إيجاد توصيف صحيح لواقعنا (تمكين– استضعاف) ومعرفة المناسب من الضوابط والأحكام له.

ويجب على الناظر في أمور الجهاد أن ينظر وهو يعلم أن هذا الفقه تأسس حال قوة المسلمين وتمكنهم من رقاب أعدائهم، ولما كان المسلمون أصحاب رسالة غرضها الأساسي نشر الدين لما وضعوا لعمليات القتل والتقتيل ضوابط لا تخرج عنها.

ولقد وجدنا في هذه الحقبة من الزمان التي يعيشها المسلمون بكل هذا الذل والهوان الذي لا يخفى على أحد، وجدنا من ينفي بعض هذه الأقوال والضوابط التي وضعها العلماء المسلمون كضوابط تضبط حركة جند المسلمين خلال فتوحاتهم وانتصاراتهم (حالة التمكين) ويستبدلونها (حالة الاستضعاف)، وهو ما يقوم به المسلمون الآن في أحسن أحوالهم، أو يعملونها وفق أهوائهم ويستدلون بها على سوء أعمالهم.

وعليه سنذكر الأمة بأقوال العلماء فيما جاء في المقال لنجعله حجة عليهم، ونعمل البصيرة في واقعنا:

• قال: روح الجهاد رسالة وغاية وأخلاقًا وأحكامًا:
• قلنا: روح الجهاد هي ضوابطه المرعية بقواعد الدين وأعلاها العدل وغاية الجهاد في الإسلام التوحيد وإعلاء كلمة لا إله إلا الله.

فروح الجهاد وغايته إعلاء كلمة لا إله إلا الله وليس القتل ولا التقتيل.

فالقتال وسيلة لا هدف ولا غاية قال تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (193) سورة البقرة. وفي نفس الآية منع عن التقتيل.

قال: الحرب في الإسلام اضطرار لا اختيار:

قلنا: قسم العلماء الجهاد في الإسلام لأقسام فإذا كنا بصدد الجهاد بمعناه الأصلي في الإسلام وهو جهاد الكافرين فله نوعان (جهاد طلب– جهاد دفع).

قال تعالى (يأيها النبي قاتل الكفار والمنافقين واغلظ عليهم).

وجهاد الطلب هو أن تطلب الكافرين في عقر دارهم بهدف إعلاء كلمة الله والدعوة لدينه قال تعالى (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة).

وكانت آخر آيات الجهاد قال تعالى {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (5) سورة التوبة، وهذه الآية هي آخر آيات الجهاد وغير منسوخة ونرى فيها أن الله قد أمر رسوله الكريم بالقتال والجهاد، والجهاد فيها أمر من الله واجب النفاذ اضطرارًا لأمر الله وليس اضطرارًا للظروف وأمور الحياة.

ومن الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس كافة حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا في دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).

الصحيح: أن الجهاد في الإسلام واجب شرعي له أحكامه ويُضطر له نفاذًا لأمر الله الواقع في نفوسنا وأقدرانا.

• قال: السلم مقصد من مقاصد الإسلام الكبرى:

قلنا: السلم مقصد من مقاصد الإسلام الكبرى وفق ما جاء به الإسلام من أحكام وضوابط شرعية لحفظ النفس والمال والعرض والأرض وبيضة المسلمين، فيجب على من يريد السلم أن يرضخ لتعاليم الإسلام وأحكامه وقال تعالى {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (29) سورة التوبة، فللسلم أشكال في الإسلام منها: المعاهدات والصلح والجزية مقترنة بالصغر.

أما عن قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (208) سورة البقرة، فالسلم هنا بمعنى الإسلام والحديث هنا خاص موجه للمؤمنين بالله وليس عام.

ثم اتبع الآية بقوله إنها محكومة بآية أخرى والتي تدعو للعدل الذي أُرسل الرسول به وأُنزلت الكتب لتحقيقه واستشهد بقوله تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (25) سورة الحديد.

قلنا: هنا وقع الاجتزاء، فاجتزأ ولم يكمل قوله تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

وقوله ليقوم الناس بالقسط: أي بالحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق وهو العدل المطلق.

وإكمالا لقوله تعالى (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)، أي وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى عن الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه ومعرفته بالإسلام.

ولهذا فقد قضي الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة 13 عامًا كلها جدال وإيضاح لدين الله مع المشركين فلما قامت الحجة على من خالف شرع الله وعدله، شرع الله الهجرة وأمرهم بقتال السيف وضرب الرقاب لمن خالف الكتاب والسنة. وهذا هو جهاد الكفار الظالمين لأنفسهم بعدم اتباعهم دين الله ومخالفتهم لعدله.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي الشامي عن ابن عمر قال رسول الله (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك به، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم).

وهذا يتفق مع قوله تعالى (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي السلاح والحراب ونحوها من آلات، وقوله تعالى (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) أي نفع في معايشهم كالفأس والمنشار وغيره.

وعليه فلا سلم في الإسلام إلا للمسلم وجهاد غير المسلم الظالم لنفسه بعدم اتباع دين الله وعدله.

فلو لم يكتب الله الجهاد على العباد لقرت أعين الظالمين (الكافرين) بخنوع المظلومين المسالمين (المؤمنين).

قال تعالي {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (251) سورة البقرة.

وكانت هذه الآية في قتل داود لجالوت أي المسلمين والكافرين وفساد الأرض هنا ارتبط بالكافرين الظالمين وليس بالظالمين ابتداءً، فالظلم هنا مرتبط أولًا بظلم النفس أي الكفر وعدم اتباع هدى الله.

فلا يحصل العدل ويتحقق بوعظ الظالم بل بإقناع المظلوم بأن ينتزع حقه.. وفي هذا نتفق.

• قال: لم يجعل الإسلام اختلاف الدين مسوغًا شرعيًّا للقتال، فالجهاد في الإسلام ليس قتال الكافرين وإنما قتال الظالم مسلمًا كان أو كافرًا فهو موقف أخلاقي مع العدل والحرية ضد الظلم والقهر، فالمجاهد يقاتل الظالم لظلمه لا لعقيدته أو مذهبه).

قلنا: سنذكر في نقاط بإيجاز حكم قتل المشركين وقتالهم (لاختلاف الدين ابتداءً) وبعض الضوابط وفق الإجماع:

1- الكفر يبيح الدم ابتداءً:

فقتالهم يكون لإدخالهم في الإسلام أو دفع الجزية والصغر لأوامر وأحكام الإسلام.

2- منع قتل الكفار المعاهدين.

3- نساء الكفار وصغارهم وشيوخهم ومن في حكمهم، وتم تقسيمهم:

أ- الذين يصابون من غير تعمد.
ب- من تم التترس بهم.
ج- تعمد قتلهم إذا أعانوا الكافرين على القتال.
ه – إتلاف ما يؤثر في قوة العدو وأهل الحرب (وفي هذا نظر).

ولكل من السابق حكمه الخاص به وبحالته.

(وهنا يتضح أن المقصود بالقتال هو الحكومات وليس قتال شعوب)

4- جهاد الدفع وهو صد العدوان عن المسلمين وأراضيهم وهو أولى من جهاد الطلب وفيه يقتل كل من يرفع سلاحًا في وجه مسلم.

وكما نري فإن الجهاد وفق الإجماع يكون أول مسوغاته الكفر ابتداءً وليس الظلم حصرًا.
يتبع…

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد