منذ سبعينات القرن الماضي والمطرب الفرانكو جزائري ذو الأصل اليهودي غاستون غرتاسيا الشهير بإنريكو ماسياس (Enrico Macias) المولود بمدينة قسنطينة شرق الجزائر، وهو يحاول زيارة الجزائر تحت غطاء الحنين إلى مسقط رأسه.
كانت آخر مرة جدد فيها هذا المطرب رغبته الملحة وحنينه لزيارة مدينة الجسور المعلقة «قسنطينة» في ديسمبر (كانون الأول) سنة 2015 إذ تمنى أن تصادف تلك الزيارة الحتفال بعيد ميلاده 77، لكن هذا اليوم من هذا الشهر بالذات 11 ديسمبر، والذي هو عيد ميلاد هذا المطرب الذي أقحم نفسه في السياسة، خصوصًا منها تأييده الصارخ للكيان الصهيوني، وللمجازر التي يقوم بها ضد الشعب الفلسطيني، وحتى تدخله في الشأن الجزائري الداخلي، يحمل هذا التاريخ للجزائريين ذكريات وأوجاعًا كبيرة إذ يذكرهم بمظاهرات الحادي عشر من ديسمبر 1960 التي قام بها الشعب الجزائري للمطالبة بحريته واستقلاله، وردًا على استفزازات الأوروبيين الذين خرجوا في مظاهرات للضغط على الجنرال دوغول ليشدد القبضة تجاه الثورة الجزائرية، ولتبق الجزائر فرنسية، فما كان من القوات الفرنسية إلا قمع تلك المظاهرات السلمية بوحشية رهيبة خلفت ما يقرب من 500 شهيد.
جرت المحاولة الأولى لزيارة الجزائر من قبل هذا الصهيوني المائع عند احتفال الجزائر عام 1972 بمرور 20 عامًا على الاستقلال، ويذكر الدكتور محيي الدين عميمور المستشار برئاسة الجمهورية فترة السبعينات أنه عندما عرض الأمر على الرئيس الراحل هواري بومدين بعد أن طلب منه أحد الصحافيين الفرنسيين ذو الأصل اليهودي والمقرب من إنريكو ذلك رمقه الرئيس بومدين بنظرة بها كل الرفض والإباء الجزائري تجاه فنان حشر نفسه في السياسة، وظل يوظف الفن لخدمة الاحتلال الصهيوني وتمجيد جيش الاحتلال في حروبه ضد العرب والفلسطينيين، ثم راح الرئيس يقول لعميمور، وقد ثبت فيه عينيه اللتين توصفان بعيني الصقر: «روح أقضي شغلك» بمعنى اهتم بعملك ولا تحشر نفسك في ما لا يعنيك.
وكانت المحاولة الثانية حد علمي قد جرت مباشرة في أعقاب انتخاب الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، فخلال حفلة أقيمت على شرفه في موناكو بفرنسا تسلل إنريكو ماسياس نحو الرئيس الجزائري، وراح يقبل يده وانهمرت دموعه في شكل مسرحي تناشد بوتفليقة أن يسمح له بزيارة الجزائر ومسقط رأسه بالذات قبل أن يخطفه الموت بغتة.
ولذلك فإن هذا الموقف الذي راحت بعض القنوات الفرنسية تنقله بغية الإثارة وضع الرئيس الذي طالما وصفه كهنة المعبد من أشباه الإعلاميين بالذكي والمحنك في موقف حرج ومنع وسائل الإعلام الجزائرية أنذاك من الحديث عنه، وبالرغم أنه لم يمانع ظاهريًا في أن تتم الزيارة، وخاصة أن الموقف يتطلب ذلك فمن أعرافنا أننا لا نرفض طلب من أراد زيارتنا ولو كان عدونا، إلا أن إنريكو لم يتلق ردًا رسميًا من السلطات.
ماسياس لم يتوقف هنا وحاول مرة أخرى عام 2003 دخول الجزائر، وكان هذا خلال زيارة الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك إلا أن محاولته باءت بالفشل، ثم كرر المحاولة مع زيارة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي للجزائر سنة 2007، هذا الأخير حاول إدراج اسم ماسياس ضمن الوفد الرسمي، ولكن ردود الفعل العنيفة التي صدرت على لسان العديد من رجالات الطبقة السياسية ومواطنين جزائريين، خاصة سكان مدينة قسنطينة حالت دون تلك الزيارة ويشيع البعض أن الرئيس السابق بوتفليقة أصم أذنيه عندما حاول ساركوزي الحديث عن ماسياس وأبدى رفضه الشديد لذلك، وأعاد الكرة عام 2015 في سيناريو بات مألوفًا كلما قربت زيارة رئيس فرنسي للجزائر وقد تناقلت أخبار أنذاك عن رغبته في أداء أغنيته – قسنطينة – في مسقط رأسه، ذات الأغنية التي أداها على مسرح الأوليمبيا في السبعينات والتي تغنى فيها بمدينته ومسقط رأسه، وأبان عن أمنيته في العودة إليها، ولم تكن هذه أول أو آخر أغنية اختزل فيها ما يجول في خاطره وجسد ذلك في أغنيته «غادرت موطني» التي بكى فيها الجزائر وقال فيها:
«غادرت موطني.. غادرت منزلي.. حياتي.. حياتي الحزينة.. تزحف بلا سبب.. غادرت شمسي.. غادرت بحري الأزرق.. ذكرياتهم استيقظت.. بعد وداعي تمامًا.
أجدني اليوم وبعد أكثر من نصف عقد من الاستقلال أقف محتارة في قصة ماسياس فهل أخطأت السلطات الجزائرية بعدم السماح له بزيارة الجزائر وأنكرت كل ما قدمه لها من فن وأغان أم كان معها حق بصفتها نصيرة القضية الفلسطينية وتناهض التطبيع بجميع أشكاله، وللتاريخ فقط فإنني أذكر المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا الذي زار الجزائر هو وأمه اليهودية، والذي لاقت زيارته كل الترحيب، ولم يمنعه أحد من ذلك، ثم إن نفس المؤرخ ألقى العديد من المحاضرات في الجزائر عن التاريخ، ولو كان بعضها مغلوطًا، وخاليًا من الصحة، وهنا يكمن الفرق.
ولكن من منبري هذا وددت القول: فلتكن ماسياس الفنان فقط وستجد الجزائريين معك بقلب ملؤه الحب فأنت حملت الجنسية الجزائرية قبل الكثيرين منا وسنردد معك كل أغنياتك الإنسانية التي لا علاقة لها بالصهيونية، ولكن في حال ما بقيت تمارس عنترياتك الصهيونية فإنك لن تجد للناقة لبنا ولن تجد لها ولدًا وسيبقى حنينك لقسنطينة حينها مجرد زيف يهودي فيه قراءات وعلامات استفهام تجاه من بات يحمل لقب محامي المليون منفي لا حنين فنان مرهف الأحاسيس يتجاهل حنين فلسطينيي الشتات ويتحدث عن منفى مزعوم هو وعائلته اختاروه ملء إرادتهم لم يكن شعبنا على الإطلاق سببًا فيه.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست