بينما يبكي العالم خلف شاشة التلفاز، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتتسابق الأمم المتقدمة؛ التي أوهمتنا بأخلاقياتها وإنسانيتها المبتذلة في إيجاد لقاحٍ فعالٍ؛ تنقذ به اقتصادها قبل شعبها؛ إذ إن الوباء الذي يقضي على الشيوخ والعجائز؛ سيكون رغم كوارثه مفازًا لها من جهة أخرى، بشكل غير مباشر؛ للتخلص من السكان عديمي الإنتاج من الناحية المادية، بينما كل هذه الأحداث تتعارك في العالم طفلة صغيرة في ركن منه دست رأسها في وسادتها ترغم نفسها على النوم، وأطلقت العنان لعينيها المخضلتين بالدموع، وألف سؤال يجوب عقلها بغير جواب.
من هو هذا الوحش الضخم الذي تهددني به أمي كلما وضعت يدي على مقبض الباب؟ هل سيقتلني كما أسمعهم يرددون كل مرة على شاشة التلفاز أم سيلتهمني فور خروجي من المنزل؟ هل سنظل مذعورين مختبئين في بيوتنا هكذا؟
هذه الصغيرة من بين ملايين الأطفال الذين تضرروا من جائحة كورونا أكثر من غيرهم، ولعل الجانب النفسي صار أشدَّ تعقيدًا خاصةً كونه الجانب المهمل من أغلب العائلات.
فبمجرد أن تخبر طفلك الذي ربما لم يصل إلى الخامسة من عمره؛ أن الخروج محرَّمٌ، واللعب ممنوع بسبب وباءٍ؛ يسمع عنه ولم يره سيغضب منك، ويعدُّك والدًا فاشلا تحاول حرمانه من أهم حقوقه.
لن أسمح لك يا بني بالتنفس خارج محيط البيت؛ فالهواء في الشارع ملوث بجرثوم صغير يدعى الكوفيد 19، وعليك بقطع الصلة تمامًا مع أصدقائك، ولتكتفِ بمهاتفتهم، ولن أتمكن من جلب حلوتك اللذيذة كلما اشتهيتها؛ حتى لا نكثر من الاحتكاك بالناس في الدكاكين.
هل ستهدئ طفلًا بريئًا بهذه الكلمات؟
كأنك تخبره أن الحلوى مخدرٌ صعب المنال، واللعب شهوةٌ محرمة، والبيت سجنٌ يختنق فيه؛ فتنغمس نفسيته المتأزمة في البحث عن طريقةٍ للهروب من سجنه، وإشباع شهوته في اللعب؛ تلك الرغبة التي كانت من حقه ستتفاقم أضعافًا بعد تحريمها، وسيلجأ إلى وسائل مختلفةٍ للتعبير عن غضبه.
ولهذا صار يتوجب على الآباء الحرص أكثر على نفسية أطفالهم ومراقبة التغيرات التي تطرأ عليها.
ومن بين أهم الوسائل التي يلجأ إليها الطفل للتعبير عن خوفه تغير مزاجيته، مع غرقه في دوامة قلقٍ مخيفةٍن ثم يليها الذعر الزائد، وقلة النوم مع كثرة الأحلام المزعجة عن الوباء.
وسيدخل في دائرة مغلقة من التفكير المستمر في المرض، وخوفه من إصابة والديه به، وزيادة تعلقه بهما كما سيقوم بحركاتٍ غريبةٍ؛ ليست من عادته، وأكثرها مص الإبهام والبكاء بدون سبب.
علاوةً على ذلك التراجع في نسبة التركيز مع اضطرابات في الأكل سواءً بزيادة الشهية أو العكس.
وقد أكد الدكتور ابراهيم أداك (عضو هيئة التدريس بجامعة العلوم الصحية – قسم الأمراض النفسية) أن الأطفال يتأثرون سلبًا بهذا الصنف من الأوبئة أكثر من غيرهم، وأن هذا التأثر يختلف حسب عمر الطفل ومزاجيته وحالته العاطفية.
فكيف يمكن إذن الحفاظ على نفسية الطفل في ظل هذا القلق الذي يتملكه؟
لا شك كما ذكرنا سابقًا؛ أن زمام الأمور كلها بيد الوالدين، وبدل الانغماس بشكل مبالغ فيه في مناقشة قضية الكورونا، والانشغال بالصحة الجسدية لا أكثر؛ أن يخصصوا قليلًا من اهتمامهم للعناية النفسية بأطفالهم؛ وذلك عبر مجموعة لا متناهية من الأساليب.
نذكر أهمها استغلال فترة الحجر المنزلي للاقتراب منهم أكثر، والإنصات لآرائهم حول الوباء، وشرحه بطريقةٍ مبسطةٍ؛ تساعد عقولهم على استيعابه، وتحذيرهم من خطره؛ بانتقاء الكلام الذي من شأنه أن يهدئ الأمور؛ لا أن يزيد من حدة الذعر والقلق في قلوبهم.
كذلك إبعادهم عن مواقع التواصل الاجتماعي وشاشة التلفاز، وأخبار الوفيات، والإصابات، وكل ما يتعلق بالوباء، ونقلهم إلى وسطٍ خالٍ منه تمامًا؛ كمشاهدة الرسوم المتحركة، والفيديوهات التعليمية، وتحفيظ القرآن الكريم، والرسم، والموسيقى، وغيرها من الأنشطة .
كما يمكن شراء المزيد من الألعاب وتخصيص غرفة خاصة لهم باللعب في المنزل للتعويض إن أمكن، ومشاركتهم قصد التخلي عن شعور الوحدة الناجم عن الابتعاد عن الأصدقاء.
إضافة إلى ضرورة الحرص على التعليم المنزلي، وتعويض الدورس بعد توقفها في المدارس؛ إذ تقول المختصة والمرشدة النفسية تمارا نفاع؛ أن هناك مجموعة من القواعد يمكن في حال اتباعها جعل عملية التعليم المنزلي أكثر سلاسة، وإمتاعًا للأطفال وذويهم .
دون نسيان الاهتمام بصحتهم البدنية؛ كحثهم على ممارسة الرياضة، ومشاركتهم في ذلك، والنوم بشكلٍ كافٍ مع التغذية الصحية؛ كالإكثار من الخضراوات، والفواكه، وفيتامين (C)، والبروتينات .
لذلك فإن العامل الأساسي المتحكم في صحة الأطفال النفسية، هو مراقبة سلوكياتهم، وآرائهم تجاه الأخبار الجديدة، وما يسمعونه من شتى المصادر؛ ومن ثَم تهدئتهم، وشرح الوضع بعيدًا عن كل أساليب الترهيب، والزجر؛ كتهديدهم بالعقاب عند الخروج أو ضربهم.
وأخيرًا وبعد كل الشرح في طريقة التعامل مع الأطفال؛ فإن هذه الإرشادات يجب أن تصل إلى كل أبٍ؛ المسئول الأول عن صحة ابنه في ظل الظروف الراهنة، وأن تمنح حقها في التجسيد قبل أن نخسر أكبر عدد من أبناء اليوم؛ الذين هم قوة المستقبل غدًا، فليس من السهل أن تمنع طفلًا صغيرًا من حقه في اللعب، والتواصل مع غيره، والتعبير عن مكنوناته؛ لأن الطفولة تبقى المرحلة التي تساهم بشكلٍ كبيرٍ في بناء شخصية الطفل، وتكوينه، وتعلمه مهاراتٍ جديدةٍ بالتواصل مع أقرانه، وسينجم عن سجنه في غرفته أمراضٌ نفسيةٌ قد تكون خطيرة إلى حد ما، وقد تصل إلى الإصابة بالوسواس والانطواء الاجتماعي، وعدم القدرة على التواصل مع غيرهم، حتى بعد تخطي الأزمة .
فإن كنا سنحصد من هذا الوباء زيادةً في الوفيات، وتراجعًا الاقتصاد، ومعهما ضياع صحة الأطفال؛ الذين طاقة الغد؛ التي من شأنها أن تبني الأمم؛ فالكوارث ستكون وخيمةً جدًّا على العالم بأكمله.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست