كان برناردشو مشهورًا بلحية بيضاء طويلة وكثيفة، مع صلع شديد في قمة رأسه، فلما أشار شخص على سبيل الدعابة إلى هذه المفارقة بين كثرة شعره في وجهه وقلته في رأسه، رد برناردشو على ذلك ساخرًا (إن المشكلة ليست مشكلة نمو، ولكنها مشكلة توزيع).
صدق برناردشو فهي ليست مشكلة نمو، بل مشكلة توزيع الدخل بعدالة على المجتمع، ويرجع هذا لانتهاج الحكومة منهج الكلاسيك في التنمية، وهو الاهتمام بمعدل النمو والناتج القومي بغض النظر عن آليات زيادة هذا النمو، فقد وصل معدل النمو إلى 5.3% حسب تقرير البنك الدولي، ورغم ذلك لم يلمس الفقراء هذا النمو في مستوى معيشتهم، فنحن علي مثال برناردشو في منطقة الصلع وننتظر عملية اقتطاف بصيلات من شعر الذقن لتزرع في الرأس، ولكن هذا لم يحدث أبدًا لأن هذا منهج الكلاسيك في علم الاقتصاد لا تدخل في الطبيعة، دع اليد الخفية تقوم بإصلاح كل شيء.
وعلي هذا المبدأ وصل نصيب أفقر 10%من الشعب المصري من الدخل القومي إلى 4% ونصيب أفقر 20% من الشعب من إجمالي الدخل القومي إلى 9.1%، في حين أن أغنى 20% من الشعب يحصلون على 41.5% من الدخل القومي، ونصيب أغنى 10% من الشعب من الدخل القومي 26.6%.
مع العلم أن هذه البيانات التي اعتمدها هنا والصادرة عن البنك الدولي من عام 2012-2015 أي قبل التعويم، حيث كان معامل جيني 31.8%.
ليصل معامل جيني في 2018 إلى 90.9% لتصبح مصر رابع أسوأ دولة في العالم في عدالة توزيع الدخل.
معامل جيني هو مؤشر لقياس مدي العدالة في توزيع الدخل القومي ويتكون المؤشر( 0-100% ) فإذا كان المؤشر 0% يشير إلى أن دخل الدولة يوزع بالتساوي، وإذا كان 100% فهي أكبر نسبة في عدم المساواة في توزيع الدخل بين المواطنين.
فكل هذه الأرقام تمثل حالة الظلم ما قبل التعويم ليتصور القارئ أن كل المظالم قبل التعويم كانت نسبتها 31%، فكيف بنا إذا صعدنا هذه النسبة إلى 90.9%، فكيف يكون الظلم في توزيع الدخل إذًاً وكيف ستكون الأرقام، ولكن للأسف لم أقف على أرقام ما بعد التعويم.
أشار لهذه المفارقة ماركس في رأس المال عندما أكد أن المجتمع لن يوجد به إلا طبقتان أساسيتان: الرأسمالية (الأغنياء) والعاملة.
حيث رأى ماركس أن الجامعات الوسطى (الطبقة الوسطي) في منتصف القرن التاسع عشر يمثلون طبقة انتقالية تتقاذفها إما الآمال في الانضمام إلى مصاف الطبقة الغنية، أو المخاوف من شبح الهبوط لصفوف البروليتاريا (الطبقة العاملة الكادحة) وذوي الفقر، ولكن واقعيًا سوف تتحطم هذه الجماعات ويسحقها تقدم الرأسمالي شيئًا فشيئًا.
ويفرق «كارشيدي» بين الاستغلال والقهر الاقتصاديين، فالاستغلال يعني به انتزاع الرأسمالي لفائض القيمة من العامل«المنتج» في شكل عمل غير مدفوع الأجر، يؤديه العامل ولا يؤجر عليه.
أما العامل غير المنتج فيتعرض للقهر الاقتصادي فيري كارشيدي أنه يؤدي عددًا معينًا من الساعات لا يؤجر عليها.
إن الفجوة الكبيرة في سوء توزيع الدخل ناتجة عن غياب دور الدولة في حماية الفقراء، ووضع حد أدنى للأجور وتقديم الدعم.
إن ما وصل إليه الفقراء راجع لتراكم الثروة عبر سنين طوال، والخضوع أمام الاستثمار الأجنبي والمحلي، وعدم تفعيل القوانين ومكاتب العمل، وإضعاف النقابات العمالية والتضخم، وانخفاض قيمة العملة وغياب الحماية الاجتماعية والصحية وانخفاض مستوى التعليم… إلخ.
إن المعاناة الشديدة التي يعانيها المواطن لا يرجع إلى سوء الإدارة، ولكن راجع لاختيار نموذج تنمية غير مناسب.
حيث تنسحب الدولة من كل التزاماتها تجاه المواطنين، وتكتفي بالإدارة أو ما يعرف بالدولة الحارسة لتترك للقطاع الخاص أن يستغل كل معاناة الشعب من بطالة وتعداد سكان كبير.
ليخفض مستوى الأجور مع سعي الدولة لتخفيض قيمة العملة على أمل زيادة الصادرات، الأمر الذي يزيد من معاناة المواطن الذي يستورد معظم احتياجاته من الخارج، إضافة إلى مزاحمة الدولة للقطاع الخاص حيث تأخذ الدولة مساحة التوظيف الخاصة بالقطاع الخاص وتستبدل بها توظيفًا مؤقتًا، فلا هذه الدولة اشتراكية راعية للمواطنين توفر تشغيل دائم للمواطن وتقدم الدعم له، ولا هي دولة رأسمالية توفر مساحة أكبر من التوظيف حتى ولو مع أجور منخفضة، ولكن نحن جمعنا بين مساحة توظيف أقل مع أجور ضعيفة مع انخفاض في قيمة العملة، مع استخدام القطاع الخاص للفئة غير المنتجة في تسخير الفئة المنتجة ليزداد الإنتاج، وتقل التكاليف وتخفض الأجور وتزداد الخصومات والتقليل من الخامات والتهرب الضريبي لتزداد الفئة المنتجة فقرًا، فيستعمل (المقهور) ضد (المستغل).
إن إلغاء الدعم هو فكر غربي يحمله صندوق النقد وهو الفكر الرأسمالي، حيث يستغلنا ويقهرنا رجال الأعمال ليزداد تراكم الثورة، وتكون الدولة على أمل أنه في حالة الاستمرار في التصدير وتخفيض العملة يزداد التصدير والتشغيل ليتحقق الرفاة، ولكن الحقيقة الرفاة تتحقق للدولة وليس للأفراد، حيث يقل العجز التجاري ويزداد الاحتياطي النقدي ويزداد الفائض في الموازنة لتنفق على البنية التحتية لتصبح الشوارع جميلة والمباني متحضرة، ولكن المواطن الفقير يظل معدوم كما هو، فعند النظر لدولة مثل البرازيل فهي تحقق أرقامًا اقتصادية مبهرة، ولكن هذه الأرقام لا تعكس حالة المجتمع.
فظهر هذا المسخ في كأس العالم حيث الشوارع والمباني الجميلة، ولكن هذه الطرقات كانت تعج بالفقراء والمجرمين وببائعات الهوى والمخدرات.
وعند الوصول لحالة التوظيف شبه الكامل ترتفع الأجور فيتحرك المستثمر من هذه البلد إلى دولة أكثر فقرًا وأقل أجرًا لتزداد البطالة مرة أخرى في الدولة الأولى، وتنخفض الأجور مرة أخرى، فأين الصناعة التايوانية والفيتنامية والماليزية في الأسواق فقد حلت محلها المنتجات الهندية والصينية، فكل الصناعات كثيفة العمالة تحتاج إلى عمالة رخيصة وخلال عقدين ستتعرض الصين لهذا وتخرج الصناعات كثيفة العمالة إلى موطن آخر، لتزداد البطالة وتنخفض الأجور مرة أخرى، لقد نجحت هذه النماذج في غرب أوروبا والولايات المتحدة في ظل ظروف خاصة لا يمكن القياس عليها، لذلك معظم الدول التي تسير على هذه النماذج تنتهي بثورات أو قمع شديد، فهي تنمية رقمية وليست حقيقية.
فهى نماذج تنمية خبيثة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست