لا يتكاسل كثير من الناس عن قراءة أخبار وسير العظماء من أهل الفتوحات والمعارك وصناديد القتال وجهابذة الشعر وفطاحل السياسة والمكر والدهاء، ولا يستشعر أغلبهم في قراءة غير هذه السير بالعظمة والفخر والقوة والإلهام والرشد.
إلا أنه بعد تحول الأحداث والتاريخ من الكتب إلى المشاهد السينمائية، وتغير واقع القراءة عند كثير من العامة لواقع المشاهدة، كان بعض الخلل والقصور والزيف والأوهام الداخلة على هذا التاريخ.
ولأن قارئ التاريخ يلفظ هذه الأوهام، ولا يقبلها بشكل من الأشكال، كان لا بد من وقفـة مع المسلسل التركي الرائع قيامة أرطغرل، ليكون بين ميزان التاريخ وحكواتيـة الأتراك.
ذاع صيت مسلسل قيامة أرطغرل بشكل كبير، وانتشر اسمه في أغلب المحافل والدول الإسلاميـة وغيرها، وأصبح تتر البداية هي الأغنيـة الأولى لكسر انقلاب الخامس عشر من تموز في تركيا، وكأن أحداث المسلسل تُعيد للشارع التركي وخاصة في الانقلاب الفاشل كيف أن للأمـة عدوان، العدو الخارجي والعدو الداخلي الذي يفتك بالدولة وهو أخطر وأشد وأنكى وأضر.
كما أن هذا المسلسل وجه فريد ومشرق للدراما التركيـة التي ما كانت سابقًا إلا لتشويـه الخلافة بشكل عام والعثمانية منها بشكل خاص، كحريم السلطان مثلًا وغيرها من الدراما التي شوّهت التاريخ الإسلامي وأظهرته بصورة غير لائقة، ناهيك عن الابتذال والانحلال الأخلاقي.
و لهذا كان يجب علينا أن ندرك ظروف مسلسل قيامة أرطغرل، أنّه جاء لتصحيح المفاهيم، وتحسين صورة الإسلام وخاصّة الخلافة الإسلامية.
وما هذه الملاحظات التي سنذكرها من باب صد الناس عن مشاهدته أو تقليلًا من شأنه، لكنه حماية له وتصحيحًا لبعض الأخطـاء التي سيقع فيها كثير ممن لم يقرأ تاريخ الدولة العثمانيـة بشكل خاص، أو حتى يعرف شيئًا عن أرطغرل وأحداث الزمان في ذلك الوقت، فلن يعرف المتابع للمسلسل فقط صحّة الأحداث من عدمها دون الرجوع للتاريخ من مصادره.
بث المسلسل الذي يتابعه أكثر من سبعين مليون مشاهد حول العالم، معاني العزّة والفخر والكرامة والأمل، والشعـور بالنصر والفتح والتمكين في زمن تعيش أمتنا فيه واقعًا بئيسًا وكئيبًا، كما أن أغلب أحداث المسلسل فتوحات وبطولات وانتصارات حُرمت منها الأمة اليوم ولا تراها، فأظهر المسلسل بعضًا من هذا التاريخ المشرق والمشرّف، و غرس في أذهان المتابعين أن التمكين في الأرض و استلهام روح النصر لا يكون إلا بتوفيق من الله وبعمل من المخلصين الذين يحملون هم الأمّة مع إيمان بالقضية وبذل التضحيات، وليس بالكثرة والعدة فقط، وهذا كلّه واضح جليّ في المسلسل.
كما أن أعظم قيمة في هذا المسلسل ربطه بين الانتصارات والفتوحات بالله عز وجل، بالتوكل على الله والثقة بوعود الله والالتجاء إليه سبحانه، وظهر هذا في جميع الأحداث وكل المراحل المختلفة بالمسلسل، و وجب شكر القائمين على هذا المسلسل لبث هذه الروح في المشاهدين.
و وضّح المسلسل أن إقامة الدولة لا يعتمد فقط على القوة العسكرية، والأرض والحدود، وإنّما لا بد من الخطاب الديني الملهم، وهذا اتضح للمشاهد من ارتباط ابن عربي بأرطغرل، وكيف كان يثبّته بالقرآن وقصص الأنبياء والسيرة النبوية وأخبار الفاتحين.
وأكدّ المسلسل أن العاقبـة دائمًا للمتقين، فقد كانت العاقبة في جميع الأحداث والمراحل مع أهل الحق ضد المغول والصليبيين والخونة، وأن عاقبة الخونة سيئة وقبيحة، فلا يحصلون على مقصودهم وأهدافهم وتُقطع أعناقهم.
كما قام المسلسل على فكرة عظيمـة وهي، أن قيام الدولة والخلافـة، وتثبيت أركانها يحتاج إلى جهد ومشقـة وتضحيات كبيرة… وهكذا من الرسائل الرائعـة والقيّمة التي أوصلها المسلسل إلى المشاهد.
إلا أن الملاحظات على هذا المسلسل، والأخطاء التي وقع فيها القائمون على العمل أيضًا كثيرة، وتحتاج لتوضيح أهم نقاطهـا، خوفًا من التباس الأمر على عامة المشاهدين، وإحقاقًا للحق و درءًا وصدًا لغيبة بعض العلماء والسلاطين التي تجاهلهم المسلسل عن قصد أو بدون قصد.
و ما ذكر هذه الملاحظات كما أسلفنا من باب صد الناس عن المتابعة، لكن لتوضيح ما للمسلسل وما عليه.
الملاحظة الأولى
لم يذكر المسلسل أبدًا تواريخ الوقائع والأحداث التي كانت، وإنما مر عليها مرور الكرام دون ذكر السنة التي وقعت فيها الأحداث أو الإشارة إليها، فلا يعرف المتابع متى نزحت القبيلة، أو متى حدثت أحداث حلب وأحداث القلعة وأحداث المغول، فلم يؤرخ لأي حدث مع العلم أنه مسلسل تاريخي في ظاهره، مما يدل بعد ذلك على أن المسلسل هو مسلسل سينمائي وحكواتي في المقام الأول، و أحداثه التاريخية غير صحيحة وغير مذكورة في المصادر العربيـة أو المراجع التركية والعثمانية.
وليست المشكلة في السينما والمشاهد والحركات وغيرها، وإنما المشكلة في تزوير التاريخ وتحريفه، وقلب الحقائق.
الملاحظة الثانية
أغفل المسلسل تمامًا حال الدول الإسلاميـة في هذه الحقبـة، ودورها الكبير في صد العدوان الصليبي، وأخطار المنافقين والمتربصين، بل وصوّر أن المنتصر في الحملة الصليبية الخامسة والسادسة هي القبيلة الصغيرة النازحة، فصوّرها أنها دحرت الصليبيين وقاتلت المغول أيضًا.
وهذا خطأ تاريخي عظيم وزيف وعبث، واغفال لجانب كبير من الحقائق، وتعصب للعرق التركي دون غيره، وكأن رسالتهم أن الذين كانوا درعًا للعالم الإسلامي وقتها هم الأتراك فقط، مع أن الذين تصدوا للحملات الصليبية ودحرها في هذه الحقبة هي الدولة الأيوبية التي كان تحت سلطانها بلاد الشام والجزيرة وأخلاط ومصر والحجاز واليمن، وكانت قوة إسلامية ضاربة قوية.
الملاحظة الثالثة
لم يشر المسلسل أبدًا للخلافة العباسية والخلفاء الثلاثة الذين عاصروا هذه الحقبة، لا من قريب ولا من بعيد، علمًا أن السلاجقة يعترفون بالخلافة العباسية ويحترمونها.
كما أنّه تجاهل الدولة الأيوبية، ولم يظهرها إلا في مشهدين أحدهما مزرٍ والآخر مسفّ.
الملاحظة الرابعة
في هذه الحقبة أيضًا سقطت الدولة الخوارزمية، لكن كان الجهاد قائمًا فيهم بقيادة جلال الدين والخوارزميين في منطقة هذه القبيلة النازحه حتى قرب انتهاء حقبة المسلسل، وقدموا تضحيات عظيمة لم يشر لها المسلسل البتة، فلماذا تم تغافل هذه الحقائق؟!
الملاحظة الخامسة
تجاهل المسلسل بالكامل الدويلات الصليبية التي كانت في غرب تركيا، وبعض الإمارات الخاصة بهم في عكّا وغيرها، وتجاهل العرب بشكل مهين، فلم يذكرهم إطلاقًا هذا المسلسل.
الملاحظة السادسة ونختم بها
يرتكز المسلسل على ثلاثة أحداث مهمة، الحدث الأول فرسان المعبد، والحدث الثاني أحداث حلب، والحدث الثالث قتال المغول، و ثلاثتهم غير صحيحة ومن نسج خيال المخرج.
وسنبيّن في مقال لاحق بإذن الله تفنيدًا لأخطاء المخرج في هذه الأحداث الثلاثة المهمة، وبقية الملاحظات على هذا المسلسل التركي الرائع.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست