في سيرته الذَّاتية الروائية «الضوء الأزرق»، يذكر حسين البرغوثي الحالة التي مرَّ بها، كانَ يشعر أنه على حافةِ الجنون، في منتصفِ التِّيه، في آخرِ الممر، وبدايةِ العدم.. وفرارًا من الجنون الذي بدا له سبيلًا إلى الخروجِ من وطأةِ الخناق؛ أعني الحياة التي تركت فيه كثيرًا من الشَّظايا وقليلًا من الحب؛ وجد في الكتابةِ طريقًا آمنًا، كأنه فوقَ جسرٍ معزول فوق نهرٍ ما.. أقل شيءٍ لحظةَ احتمائه بالقلم، تلكَ قطعة من عمرِ الزَّمن سليمة من الجنون، وضربٌ من الجنونِ في الوقتِ ذاته، إذا افترضنا أنَّ «الضوء الأزرق» نصٌّ مجنونٌ بامتياز!
كان يكتبُ نصوصًا معقدة أو متعالية على التصنيف، يعكسُ فيها وقْع معاركه المحتدمة، يحكي ذكرى لم تكن عابرة، يؤرخُ لواقعةٍ مثيرة، ويتذكرُ شيئًا من طفولته النائية، يسردُ خيباته بذاكرةٍ ثاقبة، ويطرز أوجاعه بطريقةٍ ساخرة، يحاولُ أن يخوضَ التجارب، للوقوفِ على ما وراءها.. كنتُ أشعرُ أني أقرأ رواية «زوربا»، فالحديث بين «حسين وبري» في «الضوء الأزرق»، يشبه بشكلٍ ما، الحوارات بينَ «باسيل وزوربا» في روايةِ نيكوس كازانتزاكيس.
الفرار من شبحِ الجنون الذي فرَّ منه صاحب «الضوء الأزرق»، كانت تجربة سابقة للكاتبِ الرُّوسي «نيقولا غوغول» صاحب «المعطف»، الذي جُنَّ في شبابه، وكان يمرُّ بنوباتِ كآبة، فيخترع أوضاعًا مضحكة جدًا ليضحك، وينجو من كآبته، كتبَ قصصًا قصيرة، هروبًا من نيْرِ الجنون والكآبة، مستوحاةٌ من هذه السُّخرية التي يخترعها!
في لحظةٍ فجائية شعر أنه يقضي جل حياته على المقاهي في نهرٍ تافه يُدعى «الحياة اليومية»، والحياة اليومية كلها خيالٌ أدبي فقير، وبعد جهدٍ مضن، وتيه طويل، اكتشفَ أنه تحتَ سطوة عاداتٍ فقدَ سلطته عليها، وعلى تغييرها.. كان قرار الهروب إلى الكتابة، على نسقِ «غوغول»، هو القرار الصائب في تلك اللحظة المجنونة من عمرِ الزمنِ المجهول!
تقلَّصَ فضاءُ الأمنيات، واختلطت الأحلام بالواقع، الواقع الذي وجدَ نفسه فيه أقرب إلى الجنون، ويعيشُ برفقةِ مجنون! فمن أوراقه المتناثرة عن الأيام التي عاشها، يحكي ضبابية الحياة التي لم تُحسَم، فكتبَ: «ولكن هناك نوعًا من الناس، مثلي، لا يمكنه أن «يحسم» كل حياته، كلها، لآخر ذرةٍ في قلبه، من أجل أي شيءٍ في الدنيا، وقدره أن يبقى «مشتتًا»، كالندى فوق العشب، بدلًا عن أن تتوحد كل قطراته لتكون جدولًا أو نهرًا، وتحسم نفسها بـ«اتجاه» ما، اتجاه واحد لا رجعة عنه ولا شكَّ فيه».
من القصص التي كتبها، كنموذجٍ على كتاباته العديدة التي سخرَ فيها من مطاردةِ الجنون، قصة الحجر المقدس، ومفادها: أنه تلقَّى حجرًا من «البريد»، حجرًا حقيقيًا، مترًا في متر من الحجر، بجانبه رسالة، تفيد أنَّ تكاليف استلام الطرد 20 ألف دولار، صُعقَ من ضخامةِ المبلغ، وفكَّر أن يتركَ هذه البلاهة، لكنه أعاد التفكير، إنَّ طردًا بهذا الثمن لا يمكن أن يكونَ عاديًا، فباع من فوره بيته في مخيمِ اللاجئين، ثم استلف من هنا 10 دولار، ومن عمه 20 دولار، وهكذا حتى جمع المبلغ واستلمَ الحجر.
على الحجر أختام من دولٍ شتى، راح يتخيلُ الرحلة المفترضة التي عاشها الحجر، من ميناء «سيدني» في أستراليا، ثم لميناء «مارسيليا» في فرنسا، ثم لـ«بيلر هارير»، وهكذا، وهكذا منذ نصفِ قرن وهو يلفُّ الموانئ والحدود، وأخيرًا وصل ميناء حيفا، ثم بريد القدس، وعليه أختام من كلِّ نوعٍ ولون!
من أجل هذا الحجر، باع كل ما يملك، واضطر لإخراج أخيه الصغير وأمه إلى فندقٍ رخيص في القدسِ القديمة، في فندقٍ من الدرجةِ الثلاثين، وضع الحجر في إحدى زواياه، وبات يقلبُ النظر فيه، ولا زال يعتقد أنَّ سرًا يقف وراء الحجر العابر للمكان!
أرسل قطعةً منه إلى بعضِ الجامعات لفحصها، طمعًا في اكتشافِ قيمةٍ أثرية للحجر، وبعد أسبوع، أخبروه أنه لا قيمة له. انتشرت قصته بين الناس والصحافة.. نتيجة لطرافتها، كانوا يسألونه: «كيف حال الحجر؟». كان يهرب منهم إلى ركن مقهى صغير في آخر ضواحي القدس الغربية حتى لا يعرفه أحد.. ليفكر بالحجرِ بهدوء!
لم يهتد إلى حلٍّ في أمر الحجر، فكَّرَ أن يصعدَ إلى رأسِ جبلٍ ويدحرجه نحو الوادي.. عَدلَ عن الفكرة، استشعر الحَرج من وضعِ عائلته في الفندقِ الرخيص.. ومضت الأيام وهو يقلبُ الحجر، ويدور حوله، وينظر إليه بعين متأمل، اشترى علبة دهان وطلاه بألوانٍ متعددة، كان مزهوًا به.. لكنه لا زال يشعر بشيءٍ غريب تجاه الحجر.. إلى اليوم الذي ولدت فيه فكرة التقديس!
فكَّر ثم قررَ أن يكتبَ تاريخًا مزورًا عن الحجر، على اعتبار أنه كان مقدسًا عند الكنعانيين، ثم سرقه الرومان في كذا وكذا قبل الميلاد، ثم ضاع مدة، حتى عثر عليه بدوي بالمصادفة أثناء الحروب الصليبية، وهكذا صنع حبكة عظيمة مجيدة للحجرِ المجهول!
وفي فترةٍ قصيرة استردَّ كل خسارته، وتعاقد مع شركة سويسرية لكتابةِ تاريخ مفصَّل عن الحجر، وهكذا مشاريع وراء مشاريع من وراءِ الحجر المقدس!
وفي وسط اللعبة، فوجئ بالشرطة تطوقُ الفندق، قيل له: أنت معتقل، الحجر كما تعلم ملكٌ للدولة، ككلِ الآثار، وقد خرقت القانون!
وبعد مفاوضات، أخذوا الحجر الأثري العظيم، وتركوا له الأموال التي جمعها.. وُضعَ في متحفِ الآثار، وبعد سنين مرَّ بالقربِ من المتحف، ليرى صفًّا من السُّياح يقفون على الدور لرؤية «الحجر»، وكل واحدٍ منهم يحمل نسخة من «كتاب التعريف» الذي كتبه في يومٍ ما عن تاريخ الحجر، ضحك، ومشى، ولكن بعد خطوات، وقفَ، وقال: «أقسم بالله، إن في هذا الحجر سرًّا ما، رجعَ وتناول نسخة من الكتاب الذي كتبه، ووقف ينتظرُ دوره لرؤيته».
في اللحظةِ الحرجة التي أحسَّ فيها بالضياع، والخسارة، والغرابة، والمآل الذي آلتْ إليه حاله بعد كلِّ ما بذله في هذا «الحجر الأصم»، كانَ قرار استدعاء «القداسة» الوهم العظيم، هي الحل الأنسب للتأثير في تغيير «العقل الجمعي» عن تصورهم للحجر؛ ليتحولَ إلى «الحجر المقدس»، القادم عبر الزمنِ الوعر الممتد، الحجر الذي جعلت منه «الصدفة» محفوظًا مصانًا بالرغمَ من تعاقبِ القرون!
إنَّ فكرة استدعاء خاصية «القداسة»، كانت لدى الإنسان كفكرة داخلية تنتقلُ معه من جيلٍ إلى جيل، ومن طورٍ إلى آخر، ليشعرَ بقوةٍ روحية، للعيش في غيبوبةٍ لذيذة، بعيدًا عن الواقعِ الفاضح لملامحِ الحياة وتشوهاتها.. ولهذا تجد أنَّ العديد من الأمم لا تعدمُ شيئًا مقدَّسًا «ماديًّا» ترتبطُ معه رباطًا وجدانيًا وروحيًّا، تشعر بالقربِ منه بشيءٍ من السَّلام، سطوة القداسة التي تُضفَى على الشيء المقدَّس، كفيلة بخلعِ أثوابِ المهابة والجلال، ولو كانَ حجرًا كحجرِ صاحبنا، أو عجلًا كعجلِ السامري!
يعمد البعض إلى خلقِ المقدَّس بما يتوافق مع مشروعه الذي يقومُ عليه، فتراهم – أحيانًا – يستدعونَ موقفًا تاريخيًا للبناءِ عليه، وتقديسه، أو حدَثًا كونيًا، أو أسطورة متوارثة، كل ذلك، خدمةً للأفكار التي تسهمُ في ارتفاعِ مكانتهم.. وكذا يفعلونَ مع الأشخاص.. من ماتَ منهم والأحياء، يجترونَ «خاصية التقديس»، ثم يدعونَ إليه كإنسانٍ مغاير يحملُ صفاتًا خارقة، بشكلٍ هزلي.. ومع تطاولِ الزمن، ينسونَ تلك اللحظة التي خلقوا فيها «وهم القداسة».. فيقفونَ مطْرقين، ينتظرونَ دورهم لرؤية أو النظر إلى «حجرهم المقدس».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست